ملاحظات نقدية لسياسة الممانعة السورية

 شكّل خرق العولمة للممانعة السورية الحدث الأبرز بين مجموعة أحداث ما سمي الربيع العربي، بسبب تفرّد سورية بالحفاظ على قرارها الوطني المستقل بين الدول التي أطاح بها (الربيع) الذي استبدل بأنظمة تابعة بلا رصيد شعبي أنظمةً تابعة مع رصيد شعبي، أو محميّات عشائرية تدمي بعضها بعضاً بلا دولة ولا مؤسسات، فوق خيرات مستباحة للنهب الاستعماري.

 إن تعقيدات الأزمة السورية تنبع من كونها أزمة معولمة، فالنظرة إليها على أنها شقّ داخلي تتضارب فيه مصالح الفئات الحاكمة والمحكومة، وشقّ خارجي تتضارب فيه المصالح الوطنية مع مصالح نظام الهيمنة الأمريكي العالمي_ هي نظرة مبسّطة أمام مشهد التداخل بين الشقين والتداخل بين اطراف الصراع، بحسب موقع هذه الأطراف في نظام العولمة، والقاعدة الأساسية هنا أن الموقف الوطني السياسي الممانع للهيمنة، لم يتجاوز الخطاب الإعلامي سوى على الصعيد العسكري المتبادل بين أقطاب محور المقاومة، فالممانعة بحاجة إلى ثلاث دعائم أساسية مترابطة مع الموقف السياسي، وفيما بينها، وهي: اقتصاد ممانع، وثقافة ممانعة، وبالتالي جماهير ممانعة، والموقف السياسي السوري الممانع المقاوم افتقر إلى تلك الدعائم، وهنا مكمن الخلل.

طبعاً، الخرق سبق آذار 2011 بسنوات كانت سورية خلالها تشهد تحولات مريبة، من دولة تمنح فقراءها وعمالها وفلاحيها التعليم المجاني والطبابة المجانية والدعم للمواد الأساسية، نفطية وغذائية وغيرها، دولة لم تكن اشتراكية يوماً لكنها على الأقل ذات طابع اشتراكي أو إلى حد ما دولة رعاية اجتماعية، إلى دولة وجد منظّرو اقتصادها الجدد- المرسَلون من قبل مؤسسات العولمة- في تلك الرعاية عبئاً لا تستطيع الدولة تحمّله! وعليه بدأت عملية ممنهجة لتجسيد تعليمات البنك الدولي (الخصخصة) التي أدت الى انجذاب النسبة الكبرى من عوائد النمو إلى خزائن فئة قليلة من التجار والمستثمرين، بينما راحت الطبقة المسحوقة تكتوي بالفقر والعوز والعطالة والتهميش، وهو الخلل الأكبر الذي صدّع الكيان الاجتماعي السوري وأمنه واستقراره وهدّده بالانهيار عند أول منعطف.

كانت سورية بحاجة إلى اقتصاد تنموي يؤمّن تماسك المجتمع السوري، ليشكل الدعامة الأهم للموقف السياسي الممانع، أما وقد تورطت باقتصاد ريعي معولم، فقد ناقضت موقفها السياسي الممانع وحرمته من أهم دعائم قوته. ولا تقل ورطة الثقافة أهمية في هذا المجال، وقد بدت تحولاتها بالتزامن وكأنها الغطاء للنهج الاقتصادي، باستنساخها جوهر الثقافة الغربية ما بعد الحداثية اللامبالية، مع أنها رُوّجت بوصفها ثقافة ممانعة ومقاومة، كما رُوّج اقتصاد السوق الحر بوصفه اقتصاداً اجتماعياً، فبعد أن كانت ثقافة تقدمية معادية للاستعمار وذات طابع طبقي تًعنى بالفرد والمجتمع وقضاياه وهمومه، وتدافع عن المقهورين والمهمشين، وتهدف لرفع الظلم عبر الكلمة واللوحة واللحن.. الخ، انقلبت اإلى ثقافة رهنت رقيّها وتطورها بنفي كل ذلك الإرث الإنساني والقيم الإنسانية، لتُحِلَّ محلّها، بلا مقدمات، قيماً فردية، غرائزية فوضوية، سِمتُها الأبرز هي استحضار التراث الديني الأكثر رجعية كهوية وخصوصية قيل إنها لتحصين مجتمع سوري معرض للغزو الثقافي،

لكن الحقيقة أن جوهر هذه الثقافة تعولم منذ لحظة سقوط الطابع الطبقي عنه، ودخوله في نفق نكوصية عبثية تركت آثارها البالغة السلبية على أجيال الشباب، إذ شكّلت مع نشاط المعابد المتزايد والتقصير التربوي في برامج توعية وطنية مدنية علمانية، إضافة إلى انحسار دور الأحزاب السياسية- شكّلت الوعاء الذي كوّن وعي أجيال تهيأت لخوض صراع الحضارات (الأمريكي) تلقائياً بدلاً من الصراع الطبقي الذي وصف بأنه من الماضي، فحتى الفئات المطلعة من هذه الأجيال لم تتعرف على الثقافة التقدمية إلا من خلال شتائم متفلسفي باريس الصهاينة (فوكو، غليكسمان، ليفي.. الخ) نتيجة للإقصاء الإعلامي لتلك الثقافة فبرز التيار العصابي المنكفئ تياراً طاغياً مستحوذاً على النسبة الأكبر من الفقراء والعاطلين في الشارع السوري، بينما كانت سورية بحاجة إلى تيار تثاقف نقدي ينتقي من التراث المحلي والعالمي ما ينسجم مع الحاجات الاجتماعية السورية، ويلبي متطلبات ثقافة المقاومة، وينتج معرفة متوازنة يمثل من خلالها اللحظة التاريخية، أما وقد حدث العكس فقد حُرم الموقف السياسي السوري أيضا من ثاني أهم دعائم قوته، وبالتالي من قسم كبير من الجماهير التي يفترض أن تشكل الجبهة القوية التي تحمي الدولة ومؤسساتها عندما يتعرض الوطن لاعتداء خارجي.

إن الأوراق المختلطة هي أوراق قوى متصارعة معولمة في غالبيتها كنتيجة لانفصام الموقف السياسي الممانع المقاوم للعولمة والتبعية الذي يعتبر استمراراً للنضال الوطني التحرري، عن النهجين الاقتصادي والثقافي المعولمين، وهما مدخل التبعية وفقدان القرار السيادي المستقل؛ فهل يتحول الصراع من أجل الحفاظ على هذا الحق من حقوق الدول التي ينص عليها القانون الدولي إلى صراع بين البرجوازية الطفيلية والأصولية الفاشية على حجز مكان في المقطورة الأمريكية؟

العدد 1107 - 22/5/2024