آراء حول ضرورة إنتاج الوعي بالمواطنة

يتساءل الناس: لماذا يلقي مواطن سوري محرمة في شارع بدمشق، ويمتنع هو نفسه عن ذلك في شارع ببرلين؟ وكانت الأديبة كلاديس مطر قد تحدثت في محاضرة لها في فرع اتحاد الكتاب العرب باللاذقية، فأثارت مزيداً من الأسئلة حول الانتماء إلى الوطن أو الشعور بالمواطنة.

ليس الشعور بالمواطنة هو كل ما في الأمر، ولكنه من الأهمية بحيث يستحيل بناء الدولة المدنية العصرية المستقلة من دونه، إن رغبة مواطن سوري – دون تعميم – في أذية الملك العام أو نهب المال العام لا تتعلق بالعولمة المتوحشة فقط التي أفقدت

جزءاً من شعبنا شعوره بالمواطنة بما أجّجته من انتماءات مذهبية وطائفية وعرقية عابرة للحدود، لأن ما فعلته هو استغلال مظاهر الخلل والاعتباطية في العلاقات الأنانية المفرطة السائدة أصلاً في مجتمعنا بين المسؤول والمواطن، بين القوي والضعيف، الغني والفقير، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، المعلم والتلميذ، رجل الدين والرعية.. الخ.

في كتاب الدكتور مصطفى حجازي (سيكولوجيا الإنسان المقهور) إجابات علمية عن تساؤلاتنا من خلال تحليله النفسي لعلاقات التسلط في المجتمعات النامية، فقد تحدث (ص36) عن سلسلة مترابطة الحلقات تقوم بينها مصالح تهدف إلى تقييد الإنسان وإفقاده السيطرة على مصيره، بحيث يصبح بلا حق ولا مكانة ولا قيمة إلى ما شاء الطرف المتسلط أن يتكرم به عليه
فينحدر إلى أسفل سلم الإنسانية، ينهار عنده رابط الانتماء إلى المكان، ويرتفع لديه منسوب العنف والرغبة في الانتقام. ويضيف (ص36- 37): علاقة القهر تنبت، بما تحمله من عنف، في نسيج الحياة النفسية بجوانبها الانفعالية والعاطفية والذهنية، كيفما تحرك الإنسان في العمل في المدرسة في الشارع تجابهه أشكال متنوعة من علاقات التسلط والقهر، فكل إنسان راضخ، تابع على أي مستوى من سلم السيطرة يلعب دور المتسلط على من هم أدنى منه مرتبة أو قوة).

كشف تلك العلاقات المعقدة وتحليلها يوضح أهم أسباب عدم الشعور بالمواطنة، فالملك العام هو ملك للأقوى، للمتسلطين على المواطن الضعيف المهمش، الشارع ليس شارعه والحديقة العامة ليست حديقته، وكل ما هو خارج بيته الصغير ليس مكانه، فلا يعنيه في أكثر الحالات حيادية، وفي أكثرها حدة قد يرغب في الانتقام والنيل من المتسلط عبره، على ضوء ذلك الكشف وفي إطار البحث عن حلول ممكنة، طرحت السؤال التالي على نخبة من المثقفين:

كيف يمكن من وجهة نظرك إنتاج الشعور بالمواطنة والارتقاء بوعي المواطن ليشعر أن الوطن هو بيتنا الكبير؟

الأديبة كلاديس مطر أجابت: موضوع المواطنة ليس شعراً نقوله في الوطن، بل ثقة فيه بالدرجة الأولى، أنت لا تكون وفياً للأرض فقط لمجرد أنك ولدت فيها، إنما هو وفاء لهذه العملية المتبادلة بينك وبين هذه الأرض
تعطيك فتعطيها، تحميك فتحميها، تحقق لك طموحاتك فترفع من شأنها، تحفظ كرامتك فتحفظ أنت كرامتها وتصونها، التضحية من طرف واحد تجعل الطرف المضحي يشعر بالغبن والانكسار، الشاب الذي يمشي حافياً في الشارع لا يخشى على قدميه من الأذية، وحتى لو حدثت فهو على ثقة بحصوله على التعويض، إذاً يحتاج المواطن إلى الإيمان بسطوة القانون الذي لا شيء أعلى منه ، كذلك بعلمانية مؤسسات الدولة.

المواطنة تعني خلق حالة من الحوار المتواصل بين الدولة والمواطن بحيث لا يبقى المستقبل ضرباً من المجهول، وبحيث يكون المواطن شريكاً في صناعة القرار وداعماً لخطوات الوطن وقت الأزمات، المواطنة هي أن يكون لي مصلحة في وطني وليس في أي مكان آخر.

علي عثمان (كاتب ومدرس فلسفة) قال : المسألة معقدة ، فالهوية السورية مركبة من عدة طبقات ، والهوية الدينية ليست على توافق مع الهوية الوطنية بصورة ثابتة، بل تقف أحياناً ضدها ولا سيما حين يتغذى التعصب للهوية الدينية لا للوطن على الطريقة المودودية الإخوانجية، حينئذ يتغلب الولاء للطائفة على الولاء للوطن خاصة حين لا تتعزز الثقافة الوطنية بإجراءات
عملية كفيلة بتحويل الدولة الوطنية إلى دولة مؤسسات وقوانين  بلا تمييز بين مواطن (نخب أول ومواطن درجة ثانية)، وبتلبية حاجات المواطنين الأساسية، من دون ذلك يشعر المواطن بالغربة في وطنه، ويضعف ولاؤه له ويتصاعد تشويه الانتماء الوطني حين يترافق مع التآمر الخارجي الذي يعمل على تقوية التصدعات المذهبية والطائفية وإسالة لعاب الارتزاق والمرتزقة. إن إدارة المجتمع وفق الآلية المعروفة تاريخياً باسم (السيف والمنسف) تنخر القيم الوطنية والإنسانية والحزبية وتقوي مناخ الوصولية والانتهازية، وكل هذا يضعف جهاز المناعة للدولة الوطنية وللمواطن.

الدكتورة دمينة رويحة (مدرسة في كلية الآداب سابقاً)، طرحت ست خطوات للوصول إلى وعي المواطنة بالنسبة لنا كسوريين:

1- التمسك بمنطلقاتنا التاريخية الحضارية التي تعطينا أساساً شعوراً راسخاً بالوطنية.

2- التثقيف العام من أجل رؤية واضحة لأهمية الوطن بما يعنيه في حياة البشر بوسائل متعددة كالجولات الميدانية والرسائل السمعية البصرية والدراسات الموجهة.

3- الابتعاد عن الحشو الفكري والقوالب الفكرية وبناء فكر جديد جمعي منفتح يرتكز على مصلحة الجماعة والوطن.

4- محاربة الجريمة والفساد والمحسوبيات وكل مسببات الظلم الاجتماعي، لخلق بيئة احترام المواطن والمساواة بين الناس.

5- البحث في استراتيجيات جديدة لتنشئة الأجيال القادمة بعيداً عن الطائفية والطبقية والمناطقية.

6- الاهتمام بأمان الأسرة والفرد واستقرارهما وسلامتهما.

نذير الحسن (مثقف) أوضح أن الشعور بالمواطنة يحدث عند توسع أفق الرؤية الضيقة، المحصورة بدين أو قبيلة، وعندما تكون الدولة قوية تكفل لمواطنيها حقوقهم من حرية معتقد وتملك وتعليم وسكن وعمل وكرامة وصحة وحماية ومشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية، ورسم سياسة الدولة مقابل التزام المواطن بالقانون والدفاع عن القيم والوجود، حينئذٍ يعتز المواطن بوطن هو له، هو وطنه وليس مقيماً فيه ويدافع عنه حتى الموت.

الشاعر والكاتب السياسي السوري هادي دانيال – مقيم في تونس، أجاب: بعد فرض الدولة سيادتها على كل شبر من البلاد والاطمئنان إلى وحدتها أرضاً وشعباً، ننتظر اعتماد دستور ينص على مدنية الدولة وديمقراطيتها وعلمانيتها،
وعلى حرية الضمير والتعبير والتنظيم والنشاط وفق مرجعية وطنية سورية (لا دينية ولا طائفية ولا عرقية ولا عشائرية) في دولة قانون ومؤسسات يساوي بين مواطناتها ومواطنيها في الحقوق والواجبات، فلا دين للدولة ولا إقصاء لمواطنيها عن أي منصب فيها لحسابات تتعلق بالجنس أو العرق أو الدين. وبالمقابل يحظر على مزدوجي الجنسية أيا كانت جنسيتهم غير السورية الوصول إلى أي منصب في الدولة لما تشكله ازدواجية الولاء من تهديد لمصالحنا الوطنية العليا.

ننتظر بناء قطاع عام قوي يحتكر، إضافة إلى مؤسسات الجيش والأمن والسياسة الخارجية، مؤسسات التعليم والصحة والثقافة والاتصالات والماء والكهرباء والإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، كي يتمكن المواطن من تحقيق ذاته
وكرامته بعد ضمان حقه في العلم والعمل والأمن والغذاء والصحة والسكن ومصادر المعرفة والرفاه، ويكون القطاع الخاص رافداً خاضعاً لرقابة صارمة، كما يجب اعتماد قانون أحوال شخصية جديد يساوي المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات كافة، خاصة على صعيد الإرث ومنع تعدد الزوجات وحق المرأة في الطلاق والنفقة ومنح الأطفال جنسيتها.. الخ.

يجب بث ثقافة المواطنة في مناهج التعليم الأساسي والعالي وفي مصادر المعرفة والخطاب الإعلامي وغربلتها من كل ما يهدد وحدة مجتمعنا وسلامته، أو يشوش على ثوابتنا الوطنية وقيمنا الإنسانية، أو يلجم الطاقات الإبداعية في الآداب والفنون والعلوم، ومن دون ذلك سيبقى إنتاج الشعور بالمواطنة متعذراً والارتقاء بالوعي الوطني متعثراً.

تظهر قراءة الآراء المطروحة أن التباينات طفيفة للغاية مقابل الإجماع على ضرورة سلامة العلاقة المتبادلة بين الدولة والمواطن، ليشعر كل فرد فيها أنها دولته، مؤسساتها وجدت من أجل مصالحه وفي خدمته ليدافع عنها ويحميها، الدولة دولة القانون تقوى مناعتها بقوة مواطنيها وكرامتهم، وهنا نستذكر القراءة المبكرة للمفكر السوري الراحل إلياس مرقص (الوطن أرض وناس، أرض فوقها إنتاج اجتماعي لوجود الناس)، فلنسهم جميعاً في هذا الإنتاج الحضاري.

العدد 1104 - 24/4/2024