الاستثمار بالثروة البشرية وسيادة القانون هما أساس التقدم

 لقد انقسم العالم حتى سقوط التجربة السوفييتية والاتحاد السوفييتي في الحرب الباردة إلى نظامين متناقضين ومتصارعين. ومع فكرة الاشتراكية أو ضدها، خاصة في طبعتها الماركسية، انقسم العالم، بدءاً من تولي البلاشفة للسلطة في روسيا وأطرافها الإمبراطورية في أعقاب ثورة أكتوبر الاشتراكية، وزاد الانقسام حدة والصراع ضراوة مع توسع الإمبراطورية الاشتراكية السوفييتية في شرق أوربا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والانتصار التاريخي السوفييتي على ألمانيا النازية فضلاً عن انتصار الثورات الشيوعية أو التي تحولت إلى شيوعية، في الصين وفيتنام وكوبا وغيرها. وأضاف وقوداً إلى أتون الصراع الأيديولوجي بين فكرة الاشتراكية وفكرة الرأسمالية ما شهده العالم من (توجه اشتراكي) لعدد متزايد من حركات التحرر الوطني وبلدان العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي الذي انتزعته أو نالته.

بيد أن سقوط النظم الشيوعية، وخاصة في الاتحاد السوفييتي، لم يكن، في رأيي، مجرد نتيجة للهزيمة في الحرب الباردة، بل إن هذا نفسه كان محصلة للهزيمة الاستراتيجية الأشمل في معركة التقدم الشامل، وهي الهزيمة التي طالت نظم ما سمي بالتوجه الاشتراكي، وبضمن ذلك الطبعات العربية للاشتراكية الناصرية وغيرها، وقد نسلم بأن الضرورات التاريخية، الموضوعية والذاتية، تبرر قيام هذه النظم في الأطراف التي ذاقت ويلات التخلف والتبعية والفقر والنهب في زمن صعود الرأسمالية وتوسع الاستعمار، تماماً كما ندرك أن إنجازات هذه النظم تفسر بقاءها الذي امتد عقوداً، لكن مواصلة تلك الإنجازات صارت مستحيلة، بسبب استحالة استمرار تحمل تكلفتها الإنسانية والاقتصادية الباهظة، ونتيجة تصلب الشرايين الذي أصابها وخنق إمكانات تدفق دماء التقدم وانتشار ثمار التحديث. والأهم أنه إذا كانت الرأسمالية في مراكزها الصناعية المتقدمة والجديدة قد استطاعت تجديد نفسها، بفضل تحررها من الجمود النظري وتحليها بالروح العملية، فإن الاشتراكية خاصة في طبعتها الماركسية لم تستطع السير مع حركة الواقع وسقطت في معركة التقدم.

وما يهمنا هنا هو تأكيد أن الدعوة إلى العدل الاجتماعي وضرورته لم تقض نحبها بسقوط الطبعة السوفييتية للاشتراكية، لكن تحقيق هذا العدل الاجتماعي أو التقدم الاجتماعي، صار يعني في جوهره بناء الاقتصاد والمجتمع والارتقاء بهما بما يؤمن الإشباع المتزايد للحاجات الأساسية والاجتماعية المتنامية، وهنا يتسم بالأولوية مفهوم التنمية البشرية، أي عملية توسيع اختيارات الناس، بإشباع الحاجات إلى الطعام والشراب والسكن والتعليم والصحة والبيئة النظيفة والمشاركة في اتخاذ القرار.. إلخ. وفي هذا السياق فإن معيار تقييم أي برنامج للاستقرار الاقتصادي، ليس مجرد تعظيم الكفاءة الاقتصادية، وإنما أيضاً تحقيق العدالة الاجتماعية بمراعاة التوجه الاجتماعي والوجه الإنساني للتنمية الاقتصادية، مادام الإنسان ليس وسيلة للتنمية فقط، وإنما غايتها الأساسية.

إن التحليل التاريخي يؤكد أن بناء نظام سياسي ديمقراطي لم يتحقق يوماً بمجرد فعل إرادي، مهما يكن للدفاع عن الحريات والحقوق الديمقراطية من تأثير حاسم في التقدم صوب إقرار النظام السياسي الاجتماعي لهذه الحريات والحقوق. وقد يكفي للبرهنة على هذا التأكيد أن نشير إلى تاريخ حرمان الطبقة العاملة من حرياتها وحقوقها الديمقراطية والنقابية طوال عقود وقرون من تطور النظام السياسي للرأسمالية الأوربية التي انتصرت في معركتها ضد النظام السياسي الإقطاعي على أساس شعارات الحرية والإخاء والمساواة. وقد نشير إلى النظم السياسية للإدارة الاستعمارية للرأسمالية الأوربية، التي قامت على أساس القهر السافر لشعوب المستعمرات وأشباه المستعمرات، فضلاً عن الاستعباد والاسترقاق والطرد الجماعي في ظل نظم الاستعمار الاستيطاني.

كما نشير إلى انتكاسات الديمقراطية في ظل الفاشية والنازية التي قضت نحبها بثمن باهظ دفعته الإنسانية قبل ستة عقود ونيف فقط، وعودة التهديد للديمقراطية الذي أطل من جديد في القارة الأوربية، آخذاً الصورة الوحشية للإبادة الجماعية في البوسنة والهرسك، فضلاً عن تيارات العنصرية القومية والنازية الجديدة في غرب أوربا. كما يمكن رصد تأخر التقدم أيضاً عن طريق تأكيد الحقوق الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية، في غالبية البلدان الصناعية المتقدمة. أضف إلى هذا الاضطهاد العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي تدعي أن لديها أكمل الدساتير ديمقراطية.

إن الديمقراطية السياسية التامة التي تؤمن التطور الديمقراطي للمجتمع وتحمي الحقوق السياسية للإنسان، تنهض على ركيزتين أساسيتين هما:

توفير ضمانات سيادة القانون وخاصة الدستور باعتباره قانون القوانين، من جانب، وضمانات تداول السلطة باعتبارها تأكيداً لحق الشعب في اختيار الحكومة وإعادة اختيارها، من جانب آخر.

والأهم في سياق ما نكتب عنه هو أن ارتقاء تأمين التطور الديمقراطي للمجتمع وحماية الحقوق السياسية للإنسان يمثل شرطاً جوهرياً لتأمين الكفاءة الاقتصادية ومراعاة العدالة الاجتماعية وغير ذلك من مكونات منظومة قيم التقدم الشامل. وعلى ذلك فإن التقدم الشامل يتناقض مع مصادرة الديمقراطية السياسية، بعد استخدامها وسيلة للاستيلاء على السلطة كما تكشف خبرة نظم الاشتراكية السوفييتية والقومية والأصولية الدينية تحت دعاوى العدل أو الهوية أو الإيمان وغير ذلك من المقولات الأخرى.

إن وحدة المجتمعات الإنسانية وتنوعها هي حقيقة تاريخية، وتتأكد هذه الحقيقة مع تعمق أسباب التعاون والتناقض في شتى ميادين الحياة الإنسانية، وتعدد مظاهر التأثير المتبادل إيجاباً وسلباً بين شتى البلدان، مهما يكن حظها من التفوق والقدرة، وتعاظم عوامل التفاعل بين مختلف المجتمعات أياً ما كان تباين انتماءاتها الثقافية والحضارية. وفي إدارة التناقضات المتجددة في العملية الجارية والمتسارعة لإعادة تشكيل النظام العالمي، يجب إدراك أنه بين أخطر ما يهدد الأمن القومي على مستوياته المحلية والإقليمية والعالمية وفي جميع أرجاء المعمورة تبرز معضلات إدارة التناقضات الجديدة القديمة التي تتولد عن معطى تعددية الحضارات والثقافات الإنسانية وتنوعها. وفي البلدان العربية خاصة في لحظة التحول العالمي الراهن- تتعاظم ضرورة إدراك أن التقدم الإنساني يشترط الدفاع عن حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها والدفاع عن هويتها الثقافية، ولكن في سياق تسامح أو انفتاح على حضارة وثقافة إنسانية تجسد الوحدة وتسلم بالتنوع.

والأمر أن إدارة التفاعل بين ثقافات وحضارات متنوعة قد تضاعف مكاسب (التعايش)، إذ ما جرى إعلاء وجه السماحة وروح الحوار ونزعة التعلم، وقد تفاقم خسائر (الصدام) في حال إبراز وجه التعصب وروح التعالي ونزعة القهر.. ومن منظور التكوين الإثني، أي تمايز السكان على أساس اللغة أو الأصل القومي، تمثل البلدان العربية واحداً من أكثر أقاليم العالم تجانساً، إذ يتقاسم نحو 75% من سكانه الخصائص الإثنية نفسها، وبرغم هذا فإن من المفارقات المؤلمة أن البلدان العربية قد دفعت ثمناً باهظاً إنسانياً ومادياً، في صراعاتها الإثنية الداخلية يفوق إجمالي خسائرها في جميع الحروب العربية الإسرائيلية، وذلك طوال العقود التالية لحصولها على الاستقلال السياسي.

ولا جدال في أن ظاهرة الصراعات الإثنية الداخلية ليست ملازمة أو لصيقة بالعرب أو المسلمين دون غيرهم من الجماعات الإنسانية، وقد يكفي حين ننظر إلى العالم الغربي من حولنا، أن نشير إلى أحداث العنف الإثني، لا نقول كما جرى في البوسنة والهرسة الأوربية، بل في لوس أنجلوس، أي في الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغت أعلى مستويات التقدم على الصعيد العالمي.

إننا نسجل بوجه خاص ما يصم الحضارة الغربية بالعار بسبب سكوتها على فظائع التطهير العرقي الذي يجري في فلسطين من قبل إسرائيل، وعن تشجيعها لقوى الإرهاب في الإقليم العربي بما يتضمنه من دمار هائل وتقتيل بشع ودموية وحشية، بما يتناقض ودعوته إلى إعلاء حقوق الإنسان.

والواقع إن العام بين أسباب تفجر الصراعات الداخلية، الإثنية وغير الإثنية، في البلدان العربية وغيرها من البلدان بما في ذلك المتقدمة اقتصادياً، يكمن في عدم بلوغ مستوى التقدم الشامل، الذي يوفر شروط وحوافز الاتحاد الطوعي بين السكان، بيد أنه يجب التشديد على أنه لا توجد وصفة واحدة ولا طريق سهل ومستقيم لبلوغ هذا التقدم، بل على العكس فإن التناقضات الإثنية شأن غيرها من التناقضات الإنسانية العامة، قد تتجدد..  وأما الخاص في البلدان العربية من المنظور ذاته فهو اتساع الفجوة التي تفصله عن التقدم الشامل الذي يؤمن شروط تقليص وضبط التناقضات والصراعات الداخلية الإثنية، ويضفي الطابع الإنساني على الهوية الثقافية ويؤكد قيم التسامح والتفاهم والتعايش مع الآخر.

العدد 1107 - 22/5/2024