«ثورة» على الواقع الحكومي..مشروع الإصلاح الإداري السوري

أطلق السيد الرئيس بشار الأسد في أواخر شهر حزيران من هذا العام (المشروع الوطني للإصلاح الإداري)، الهادف إلى خلق منهجية واحدة ومتجانسة لكل وزارات الدولة عبر (مركز القياس والدعم الإداري) و(مرصد الأداء الإداري)، و(مركز خدمة الكوادر البشرية)، بما ينطوي عليه ذلك من (وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب) واختيار أشخاص من ذوي الخبرة والكفاءة والنزاهة في إدارات الدولة ووظائفها، وضع مقاييس وأسس وسلم وظيفي للتدرج وتولّي الوظيفة العامة، ذلك أن أمر الإدارة بات يتطلّب ذلك استناداً إلى انتهاء صلاحية الآليات الإدارية الموجودة حالياً… وقد قال السيد الرئيس خلال ترؤسه اجتماع مجلس الوزراء الخاص بمشروع الإصلاح: (إن الآليات الإدارية الموجودة حالياً لم تعد مقبولة)، كما وجّه انتقاداً حاداً لبعض المسؤولين الذين وصفهم بـ(المرعوبين) على خلفية تصرفات تسيء بشكل مباشر إلى حقوق المواطن السوري ولا تليق بالوطن… وأشار إلى أن أهم المظاهر المسيئة هي تلك المواكب الضخمة لبعض المسؤولين أو غيرهم، إضافة إلى قطع الطرق، مبيناً أن أولئك المسؤولين يعكسون (مظهر المرعوب)، متسائلاً في الوقت ذاته عن الصورة المتناقضة التي يعطيها هؤلاء، والتي تتمثل بأنهم خائفون ويقولون للمواطن إننا سوف نحميك! ووجّه السيد الرئيس الوزارات المعنية إلى اتخاذ الإجراءات الرادعة والضرورية لوقف هذه المظاهر، قائلاً: (لا يشرفنا أن يكون هذا المسؤول موجوداً في مؤسسات الدولة)، كما كشف عن أن هناك أسماء فاسدة على المستوى الحكومي والوطني، وأنه لا بد من وجود محاسبة لتحقيق نتائج في مكافحة ذلك، مبيناً أن هناك سلسلة طويلة من الفاسدين.

وفي السادس من حزيران قال السيد الرئيس لقناة (ويون) الهندية -وذلك في معرض حديثه عن تطورات الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ قرابة سبع سنوات-: (إن الأوضاع تسير حالياً في الاتجاه الصحيح)، بفضل سلسلة من النجاحات التي حققها الجيش العربي السوري إثر تمكنه من دحر الإرهابيين وبسط نفوذه من جديد في العديد من المناطق، معتبراً أن (الأسوأ قد انقضى وأننا نسير في الاتجاه الصحيح، لأننا استطعنا دحر العناصر الإرهابية من البلاد، بفضل دعم القوات الروسية للقوات السورية في حربها ضد الإرهاب). وتابع: (رغم دعم الغرب وبعض الدول الأخرى وحلفائها للمتطرفين في البلاد، لكنني أثق في أن الأسوأ قد انقضى بالفعل).

وبالرغم من أن الأسوأ الإرهابي قد انقضى، إلا أن (الأسوأ الإداري) ما زال يقض مضجع الإصلاح ومشاريعه التي لم تستجدّ فقط في حزيران من هذا العام، بل كانت ضمن خطابات القسم للسيد الرئيس منذ عام ،2000 وللأسف الشديد، ما زلنا نشاهد مواكب ضخمة محصّنة لمسؤولين يتجاوزون القانون والمواطن ودستور الدولة، ويقطعون الطرق على المطالبات بالإصلاح ومبادراته، وما زلنا نشاهد في الإدارات الحكومية أشخاصاً فوق القانون وبعهدتهم قضايا تفتيشية مجمّدة، وهم من أصحاب ملفات فساد-بعضها خطيرٌ للغاية- ويمارسونه سراً وعلناً دون أن يشملهم قانون المحاسبة أو العقاب أو حتى الرقابة، الأمر الذي يبقي على حالة الإحباط عند أبناء الوطن، أما البعض من الفاسدين فقد جعل من الدائرة أو المديرية أو المؤسسة التي يتولاها مُلكاً خاصاً به، يعيث فيه فساداً، في ظل انعدام المعايير الموضوعية لتولّي الوظيفة العامة والمنصب الحكومي، بينما ماتزال وزارة التنمية الإدارية تحاول وضع أسس موضوعية لتولي الوظائف والمديريات، لكنها تاهت، على ما يبدو، في الاجتماعات وغرقت في التنظير وتخبّطت بالمقترحات النظرية الخُلَّبية التي مازالت حبراً على ورق، واستمر نهج البيروقراطية وسوء الأداء والظلم واللامبالاة والروتين بقوة في الدولة، بما يضع القانون في حالة خدمة اللاقانون في دولةٍ أقل ما يجب أن توصف به هو دولة القانون!

دولة القانون وأهم مبادئها

ظهر مصطلح دولة القانون في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في ألمانيا، في زمن تكوين الوحدة القومية، فكان الهدف منه تدعيم مركزية الدولة وحسن سيرتها ومسيرتها، أما متطلبات دولة القانون فهي بناء نظام سياسي مؤسساتي يعتمد على هيكلية قانونية منسجمة مع التطور الحضاري ومتطلبات المجتمع المحلي والعربي والدولي، ثم الإلمام بمفهوم الدولة والعناصر الرئيسة في الدولة، ألا وهي الشعب والأرض والسلط.، ولدولة القانون مبادئ منها: فصل السلطات الثلاث -التشريعية والتنفيذية والقضائية- وإعطاء السلطة الرابعة -أي الصحافة- كامل حقوقها كسلطة تعبّر عن هموم المواطنين وآرائهم وتضمن لهم حق التعبير وحريته. ومن مبادئ دولة القانون أيضاً مراقبة قرارات الدولة وأفعال أجهزتها والتسلسل الهرمي للقوانين، ثم توفُّر المصداقية في أفعال الدولة، إذ تقوم الدولة على سيادة الدستور، ولا تتحقق الديمقراطية والسيادة لدولة ما إن لم تكن دولة قانون قائمة على علاقة متوازنة بين الحاكم والمحكوم، تقيّد نفسها بنظام قانوني تشريعي يحمي المصالح العامة، ولا يقيّد الحقوق العامة.

نماذج عن حالة (القانون في خدمة اللاقانون)

كنا نأمل من الجهات الرقابية أن تقلّب جيداً أضابير بعض المؤسسات وتدرسها، على الأقل تلك المؤسسات التي تشير إلى أخطائها وملفات فسادها الصحافةُ المحلية، رسميةً كانت أم خاصة، أو حتى تلك التي تشير إليها (الصحافة الشعبية) المتمثلة بمنشورات وسائل التواصل الاجتماعي… لكن الحكومة في ربيع هذا العام فاجأت الأوساط الإعلامية بالكتاب رقم/1/4856-تاريخ20/4/2017 الموجه إلى وزارة العدل والخاص بـ(إعداد مذكرة تفصيلية حول ما يتناوله بعض الوسائل الإعلامية الخاصة والإعلاميون في الإعلام الرسمي من قضايا وموضوعات تستهدف العمل الحكومي وتساهم في إضعاف هيبة الدولة والانتماء الوطني لدى المواطنين ليصار إلى معالجتها وفقاً للأنظمة والقوانين النافذة)، الأمر الذي اعتبرته أوساط قانونية وبرلمانية وإعلامية تقييداً لحرية الرأي ومخالفةً للدستور، وخصوصاً أن الدستور صانها ونص عليها كونه سقفاً وقبةً للقوانين، وأن القرار المذكور في صيغته الحالية مخالف للدستور وقانون الإعلام، وفيه تهديد للصحافيين، فالمادة الثانية من قانون الإعلام رقم 108 لعام 2011 تقول إن الإعلام بوسائله كافة مستقل ويؤدي رسالته بحرية ولا يجوز تقييده إلا بما يتوافق مع الدستور والقانون، فالمبادئ الأساسية لممارسة العمل الإعلامي هي حرية التعبير وحق الإعلامي في الحصول على المعلومات الخاصة بالشأن العام… وتنص المادة الرابعة من قانون اتحاد الصحافيين في البند الثالث منها على أن من مهام الاتحاد السعي لكي يمارس الإعلام دوره البنّاء في مجال الرقابة الشعبية على أجهزة الدولة المختلفة.

(الآغوية) البائدة.. تطرق الأبواب من جديد

منذ أسابيع اطّلعنا على مداخلة لأحد النواب في مجلس الشعب، يطالب فيها بنص صريح يجرّم من يسيء للأشخاص المشهورين في المجتمع(!) داعياً إلى (وضع مادة قانونية تجرّم من يسيء للأشخاص المشهورين أو ذوي القيمة في المجتمع على مواقع التواصل الاجتماعي)، مبيناً أن (القانون لم ينص على ذلك علماً أن هناك دولاً أخرى منها عربية تشددت في ذلك، حتى إن مبالغ التعويض كبيرة جداً). وقد كنا ننتظر من النائب المذكور أن يقترح نصوصاً تحمي المواطنين من عسف بعض الأشخاص المشهورين في المجتمع والدولة وتجاوزهم للقوانين، وليس حمايتهم من مطالبات الناس وتكبيد من ينتقدهم تعويضات مالية خيالية… فإذا كان (ممثل الشعب) يدعو إلى تقييد بعض الحريات للشعب ويميّز بين وجه ووجه في المجتمع، فمن سيمثل هموم الشعب ومطالبه؟! وبغض النظر عن مطالبة النائب المذكور هذه، التي تعيدنا إلى زمن (الآغوية) البائد، فإننا نؤكّد أنه لا داعي لنصوص قانونية تُصاغ تحت قبة البرلمان لإسكات الأفواه المطالبة بالحق، فـ(أغوات) بعض الإدارات أقوى من القانون الذي يطالب به هذا النائب، ولا مجال هنا لذكر تفاصيل عن (شحط) عاملين في الدولة أو مواطنين إلى أقسام الشرطة لمجرد أنهم انتقدوا أداء مدير ما في العمل أو صاحب (وجه اجتماعي)، أو حتى أولئك الذين اشتُبه بـ(تورطهم) بـ(حيازة) صفحة تواصل اجتماعي تتطرق إلى قضايا فساد و(تتعاطى) الإعجابات مع (بوستات) ناقدة!

خاتمة

يجب أن لا يستمر الوضع على ما هو عليه في البلاد، فالواضح أن القانون يوقّع لللاقانون على ما يريد، مما يوقِع البلاد في حالة فصام في الشخصية الوطنية، ويبدو اللاقانون مغلَّفاً بالقانون بفعل الخلل الواضح في المعلومات التي تصل إلى الحكومة، وإذا كان ثمة منظومة كاملة قوية تنقل المعلومات المشوشة إلى تلك الحكومة، فلا بد من منظومة أقوى تصحّح تلك المعلومات لها، وتفرض عليها الاستجابة للمنطق والحق والقانون… أما إذا استمر سوء الحال هذا، فقد يكون مؤشراً إلى نوايا خارجية خبيثة تريد أن تستبدل بسورية الأصلية سورية يطمح إليها الأعداء ويعدّون لمستقبل ما لم تكن دولتنا لتقبل بجزء منه سابقاً، فهل ستقبل به اليوم كاملاً باستمرار هذا الحال؟!

العدد 1107 - 22/5/2024