الانعكاسات الاجتماعية للأزمة المعقدة

 مهما كانت الآثار الاقتصادية للأزمة المعقدة، أو الحرب الظالمة على سورية صعبةً، فإن الآثار الاجتماعية لها لا تقل صعوبة، بل إنها أكثر قسوة، وهي تهيئ لأزمات متكررة، إن لم نستطع احتواءها وعلاج أغلبها، فكلنا يعلم أن الآثار الاجتماعية تصيب الإنسان، الذي هو أداة أي تنمية و الغاية النهائية لها، وقد كان اللعب على بنية الإنسان وأهوائه وغرائزه من ضمن الأمور التي لعب الغرب بها، ليجعلها مدخلاً للقذارة اللا إنسانية التي عمل بها، ليستمر في السيطرة عبر تدمير البلدان واستمرارية تبعيتها له، وكيف يمكننا أن نجعل الإنسان مدخلاً أكيداً، بتفريغه من قيمه ومبادئه، و جعله محطماً يائساً، وباللعب الغرائزي من الاستهلاكي إلى الإباحي، وكل ذلك لإفقاد الجمع الهوية الجامعة، وهي أس ما سمي بالعولمة المهيئة للحروب المشتتة المقسمة القادمة، فرغم الدمار الذي أصاب مختلف القطاعات الاقتصادية من أراضٍ زراعية إلى حرفٍ وصناعات وسياحة وخدمات، وبنيان سكني وصحي وخدمي، وجسور وطرقات وشبكات كهربائية، قدّر بحوالي 350 مليار دولار، فإن الكلفة الاجتماعية لم تكن أقل، وقد تكون أضعافاً، فما نجم عن هذه الحرب القذرة ستظل مفاعيله لعقود وعقود، عبر لواحق الألم و الفقدان أو عبر ثقافات وافدة غريبة عن مجتمعنا، أو عبر تهجير لا يملك شروط الاستقرار، فمن خلال هذه الحرب القذرة التي استخدمت فيها أنواع الأسلحة النارية كافة والإعلامية والتضليلية، فقد مئات الآلاف من شباب الوطن، الشباب الذي صرفت البلد مليارات الليرات لإنشائهم وتأهيلهم، وما يصاحب هذا الفقدان من انعكاسات أسرية لاحقة، مضافاً إلى ما بذل لما وصلوا إليه من تشتيت للأسرى، وقهر وألم و حزن، ويتم وحالات أسرية مشتتة، وكذلك هجرة ملايين من البشر إلى دول مجاورة، ودول استثمرت الكوادر العلمية والمهنية منهم، كلفوا مليارات الدولارات، ليكونوا طاقة بناء لاقتصادها، وليكونوا أساس نمو اقتصادها، و لتتكون في الهرم السكاني فجوة كبيرة فيما يخص سنوات ما بين 18 _ 42 سنة، و خاصة فيما يخص الذكور، وهذا سيخلق فجوة كبيرة في السنوات اللاحقة، و كذلك سيزيد من حالات العنوسة، لتفوق عدد النساء على الرجال، وكذلك حالات عدم الاستقرار واليأس، لتغيير ظروف الحياة على النازحين واللاجئين وصعوبة الاستقرار، ليظلوا مشتتي الأفكار والعواطف والسلوك، وكذلك ما نجم عن هذه الأزمة من مئات آلاف المعاقين جسدياً بإصابات مختلفة دفاعاً عن الوطن، بين بتر أطراف سفلية أو علوية أو شلل كامل، وما ينجم عنها من حالات نفسية صعبة تنعكس على أسرهم و على المجتمع، وهؤلاء بحاجة إلى علاجات آنية ومستقبلية كبيرة ومميزة لإدماجهم بالمجتمع، وما يحتاج الأمر من تكاليف ووجود متخصصين بهذه المجالات الطبية، وكذلك الإعاقات النفسية التي أصابت معظم المجتمع نتيجة هول المصاب، وصور العنف، وولوج ثقافات وسلوكيات لا إنسانية تفوقت على سلوك البرابرة والمغول وغيرهم، انعكست على الحياة الاجتماعية، وأعطت ثقافة جديدة صبغت المجتمع، وخاصة الأطفال، فصار مجتمع العنف بدلاً من التسامح والمحبة والألفة والمودة، وهذا بحاجة إلى معالجات متخصصة في مؤسسات التنشئة المختلفة التعليمية والإعلامية والدينية، هذه المؤسسات التي عانت من خلل قبل الأزمة في الدور الوظيفي، ساهم في تخلخلات أدت إلى سهولة الاختراق، و بالتالي فإننا بحاجة إلى إصلاحات كبيرة والسير ببرنامج تضعه هيئة عليا، لتشخيص الحالات والخوض بأسبابها، ووضع برامج متكاملة مرحلية و استراتيجية للتصدي لها، تكون مهمتها الإشراف على التطبيق لمؤسسات التنشئة وللمراكز الثقافية والمؤسسات الرياضية وغيرها. وهذا بالتوازي مع إصلاحات ضرورية لكامل المؤسسات التعليمية والإعلامية و الدينية، وفق أدوات و مناهج وآليات قادرة على إعادة نشر الأخلاقيات والعادات الجامعة، والإحاطة بما سرّب من ثقافات عابرة لا تنتمي إلى أصالتنا، ولا إلى روحية الأديان، وإنما هي اختراق لكل شيء جميل أدى إلى أزمة أخلاقية كبيرة، أدت إلى تفوق الأنا على العمل الجمعي، والتفكير بالخلاص الشخصي بدلاً من الجمعي، وبدلاً من أن نسعى لتكريس جودة الخدمات التعليمية و الصحية، أصبحنا نسعى لإصلاحات نعود بها إلى نقاط سابقة، إصلاح يقوم على المراقبة والمتابعة والمحاسبة.

 المحصلة، لكل ذلك العودة إلى الانتماء الوطني، بدلاً من التعصبات التي طفت وجعلت كثيرين ينقادون بها، ويتحقق ذلك بأن تفرض القانون مؤسساتٌ قادرة على الضبط، وتملك الصلاحيات والقوة والعقلانية لتنفيذ ذلك، وصولاً إلى مواطنة عادلة للجميع، ووصولاً إلى علاج للأنانيات الشخصية.

 وكذلك نجم عن هذه الكارثة عمالة للأطفال بأعداد كبيرة، وكلنا يعلم ما ينجم عن انخراط هؤلاء في سوق غير منظم وغير مراقب، وما تتعرض له نفسية الطفل من تشوهات تنعكس مستقبلاً على حياته وحياة البلد، وكذلك زيادة التشرد والتسول، وتسرب مئات الآلاف من التعليم، بعدما كنا قد وصلنا إلى مراحل متقدمة في الإحاطة بالأمية والولوج بالتعليم الإلزامي للجميع، والسعي لفرضه بمراحل متقدمة. وكذلك تفشي ظاهرة الدعارة وازديادها وسط انتشارين أفقي وعامودي، ووسط محاولة بعض الجنسيات غير السورية والسعي للانتقام من الجنسية السورية، مرفوعة الرأس والكرامة، عبر ابتزازات حقيرة ساقطة، و كذلك انتشار بيع صغيرات السن بعقود زواج شكلية، وانتشار ظاهرة كثرة المواليد الذين لم يوثقوا لزواج سوريات من غير السوريين، أو الزواجات في مناطق لا تسيطر عليها الدولة، وما سينجم عن ذلك مستقبلاً من إشكالات. وهنا نطالب بأن تعطى المرأة السورية الحق في منح الجنسية لأولادها.

وكذلك انتشار المخدرات في صفوف الشباب، وأمراض اجتماعية جديدة (المثلية الجنسية، وعبدة الشيطان، وتجارة الأعضاء البشرية، وعصابات الخطف والتشليح)، وكذلك فقدان وثائق الملكية لمناطق كثيرة يحاول الكثير من تجار الأزمة وتجار الوطن استثمار هذه الحالة للنهب وسرقة الأملاك، وهنا لابد للدولة من تصرفات تحمي بها حقوق مواطنيها المهجرين أو الذين غادروا، وخاصة في مناطق السكن العشوائي، ونبارك ما قامت به الدولة من ضرورة موافقة أمنية لأي بيع وإن كان بحاجة هذا الأمر إلى تقصير الوقت، وهذا السلوك من أجل قطع الطريق على من ظن أن البلاد فوضى، وحاول قنص ممتلكات من غادروا البلد. وهذه الحالات من الفوضى وتجاوز القوانين وغيرها أدت إلى تفشي أنواع جديدة من الفساد، في ظل صعوبة الإحاطة بها لضرورات إدارة الأزمة( من تعفيش، وسلبطة على الممتلكات، وظهور تشكيلات تحمل السلاح)، وقد سعت الدولة لضبطهم عبر تشكيلات يؤمل منها السلوك المنضبط بشكل تام، وأكيد خرج الكثير منهم عن السلوك الحقيقي، ولكن آن الآوان لوضع حدود لهم، فلا مستقبل جديداً إلا حين يكون كل السلاح تحت سيطرة المؤسسة العسكرية، وكذلك أي ميليشيا أو تشكيل مسلح، فالمؤسسة العسكرية هي وحدها القادرة على ضبط حالات كهذه، في ظل العمل لفرض القانون والنظام وتهيئة الأجواء للانطلاقة الجديدة.

وفيما يخص طبقة مرتزقة جديدة نجمت عن الاستفادة من الدم وتجويع الشعب وسرقته، فهذه سيكون الواقع السوري كفيلاً بتحييدها وكذلك القانون السوري. ويشمل ذلك تجار الأزمة وحيتان الفساد الذين حاولوا ليّ ذراع الحكومة التي كانت ترى، وتنتظر للتوقيت المناسب. وكذلك فإن هذه الطبقة كانت استثناء عن حالات الفقر الذي وصل إلى حدود90 % من المجتمع السوري، مما أدى إلى زوال الطبقة الوسطى، وهي عماد تطور أي مجتمع وتقدمه وتوازنه. إن إعادة الألق لهذه الطبقة ضرورية للانطلاقة السليمة ولا يتحقق ذلك إلا ببرامج اقتصادية تنموية تحسن معيشة المواطنين، وتعيد الانطلاقة الاقتصادية، وذلك بتحسين سعر الصرف، وضبط الأسعار وعودة الحكومة لقيادة الحياة الاقتصادية عبر مؤسسات التدخل، وعبر التسعير الإداري المتدحرج، والرقابة المستمرة. وكذلك تفشي أنواع من البطالة المقنعة، نتيجة تدمير المعامل والفعاليات الاقتصادية، رغم عدم ظهور الحالة الكبيرة للبطالة بسبب عسكرة الشباب، الشباب السوري الذي هو عماد أي تطور و تقدم بمساعدة حكمة الشيوخ وقوة الرجال الشباب السوري الذي كان تحت ضغط مؤامرة كبيرة لتحييده عن أي عمل وطني منتج ورغم انخراط الكثيرين منهم في العمل الخيري التعاوني والتطوع الكبير، ولكن لا بد من تأطيرات وتشكيلات دامجة وموحدة. وعلى الرغم من أهمية الحاجة إلى العمل الأهلي والمدني للتصدي للمهام المطلوبة إلا أن عبثاً وفساداً كبيراً أصاب هذه الجمعيات، وأصبحت منبراً للظهور ومدخلاً للسرقة وبعض الإساءات، ما يقتضي أن يزيد الإشراف عليها وضبط عملها، وأن تكون الخطط المرحلية والوسطى والاستراتيجية مركزية بشكل يوزع الأدوار، وأن يكون العمل أساس التقييم وأن نبتعد عن التقييدات الروتينية المعرقلة.

رغم كل ذلك فالأمل كبير، لأن العمق والجذر التاريخي للعقل السوري بناء و متجدد في ظل توفر الظروف، وهذا كفيل بالعودة إلى ما كنا عليه والانتقال السريع إلى ما نصبو إليه، ولكن عبر آليات وخطط تستند على الخطاب الوطني الجامع و عبر التواصل الذي فقد مكانه بسبب الظروف الأمنية أو التكاليف الزائدة بين المدن، وعبر تكريس المؤسسات لنشر ثقافة المحبة والتعاون والتسامح، بذلك نغلق الطرق على الإعلام المضلل والأموال السوداء التي حاولت إثارة النعرات التعصبية.

 وهنا نقول إن سورية لكل ألوان المجتمع السوري والمواطنة تجمعنا، ومن يفكر بالانعزال أو الانفصال فهو غير سوري، والحوار ضروري لعودة العقول، و أي تفكير لأي كان بقضم جزء أو التمرد على الدولة السورية الجامعة سيكون الرد الشعبي عليه قوياً وعنيفاً.

 وأخيراً هذه الأعمال بحاجة إلى فريق عمل مراقب، متابع، مقيم، ومعالج ومجدد، ومهما كانت الانعكاسات الاجتماعية والاقتصادية فإن تعاون السوريين، ونبذ الأنانية الفردية لصالح الوطن، والابتعاد عن كل التخندقات اللاوطنية، وتقوية دور المؤسسات، وممارسة العقاب والثواب، كفيل بالعودة القوية والسريعة، فسورية ولادة، ووطنيتها لم تنضب و لن تنضب، وأسلوب المصالحات والمسامحات التي يقوم بها العقلاء كفيلة بترميم الجراح وعودة اللحمة، ولا يمكن أي حل إلا عبر الاحتواء. قد يكون هناك ثغرات ولكن عقلية إدارة الأزمة كانت كبيرة ما عدا بعض الثغرات الاقتصادية التي قد تكون قرارات أزموية، وعقلية الآن وما بعد الأزمة يجب أن تكون أكبر وأكثر استيعاباً.

العدد 1105 - 01/5/2024