توازن القوى في الشرق السوري

 في 17 أيلول الجاري هاجمت قوات العدو الإسرائيلي مواقع عدة في ريف القنيطرة. وفي التوقيت نفسه، وبشكل مثير للريبة، اعتدت طائرات أمريكية تابعة لقوات التحالف الدولي على مواقع للجيش السوري في محيط مدينة دير الزور. واعتبرت الولايات المتحدة لاحقاً ذلك خطأ، في حين تؤكد المعطيات أن الاعتداء كان مقصوداً. وبينت المُجريات اللاحقة حقيقة أهداف عملية القصف، إذ أعقب غارة التحالف الدولي معركة عنيفة حصلت بين الجيش السوري وقوات (تنظيم الدولة) التي اندفعت بكل قوتها للاستيلاء على جبل الثردة من الجنوب، وهو جبل مكون من مجموعة من التلول تحمي مطار دير الزور الاستراتيجي، واستطاعت عناصر التنظيم الاستيلاء عليه. لكن بالجهود الكبيرة للجيش السوري والدعم الروسي تحول انتصار التنظيم إلى انتصار مؤقت، ففي اليوم التالي استعاد الجيش معظم النقاط التي خسرها.

ما حدث لم يكن من منظور الصراع في سورية عسكرياً بقدر ما كان سياسياً. إن الاعتداء على دير الزور يشير بوضوح إلى أن الإدارة الأمريكية غير جدية ولا مُستعجلة الحل السياسي في سورية، وأنها أميل إلى إطالة الحرب في ظل تنسيق بدا واضحاً منذ فترة وجيزة مع كل من تركيا وإسرائيل، لتشكيل مثلث عسكري يمثل مساراً عُنفياً موازياً لعملية سياسية وتفاهمات متوقعة مع روسيا. ومن الواضح ان الاعتداء الأمريكي على الجيش السوري هو نوع من جس نبض للكرملين حول عمق الخطوط الحمر التي يمكن أن ترسمها في الشرق السوري، الذي من المُتوقع أن يشهد تطورات خطيرة في حال عدم التوصل إلى تفاهم واضح بين الطرفين الروسي والأمريكي بشأن الحل السياسي في سورية.

يمكن أن نستشف هذه التطورات المتوقعة من تهديدات مبطنة جاءت على لسان عدد من المسؤولين الأمريكيين والأتراك والإسرائيليين. وقال وزير الخارجية الأمريكية عقب انهيار الهدنة في حلب إن الاستمرار في هذا الوضع سينهي (سورية الموحدة)، فيما قال آفي دختر، رئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي إن (ما يجري في سورية اليوم ليست بداية النهاية كما يروج البعض بعد الاتفاق الروسي الأمريكي، بل هي ربما نهاية البداية). بالتأكيد كان يقصد هنا أن تلك البداية ليست سوى نموذج الدور التمهيدي لما حصل في ليبيا، أي تدمير مفهوم الدولة الموحدة وتقسيمها ديموغرافياً، وهذ أكثر ما تسعى له إسرائيل. لاشك أن الكرملين استفاد من الدرس الليبي، الذي انعكس في الصراع على سورية. وعلى الرغم من خروج قسم واسع من الجغرافية السورية من سيطرة الدولة المركزية، بقيت الدولة محافظة على الحد الأدنى من النظام المؤسساتي، ما سمح لها بالمبادرة عسكرياً على جبهات عدة، والتحرر التدريجي من سلطة الأمم المتحدة واتخاذها المبادرة في إنجاز المصالحات الوطنية.

إن الدعم الروسي للجيش السوري لن يثني البيت البيض عن مشروعه في سورية، لكنه بالتأكيد سيعدل من مساره الجيوسياسي. بالتالي من المفترض أن تبقى المواجهة العسكرية قائمة. وبموازاة معركة حلب التي يبدو أن الجيش السوري قد ملك زمام المبادرة فيها، ستقوم الولايات المتحدة بفتح معركة موازية لها يكون لحلفائها اليد العليا بها. أما أين هذه المنطقة؟ فالجواب يحدده الميدان، والأكثر ترشيحاً هي التخوم الجغرافية التي تفصل الطرفين، ونقصد هنا الجنوب السوري حيث تصاعدت وتيرة العمليات العسكرية للمجموعات الإرهابية بدعم من قوات العدو الإسرائيلي. أو الشرق السوري الذي أصبح فيه الحضور العسكري الأمريكي واضحاً. من هنا يأتي الاعتداء الأمريكي على دير الزور مقصوداً وليس بالخطأ، كما ادعى الناطق باسم العمليات المشتركة. وهذا الاعتداء لم يكن سوى تكملة لسلسلة عملياتية بدأت في مدينة البوكمال في حزيران الماضي، عندما أنزلت الطائرات الأمريكية مقاتلي (جيش سورية الجديد) وجرت إبادتهم من قبل عناصر (تنظيم الدولة) في اليوم نفسه.

 تريد الولايات المتحدة أفضلية على الروس، وهي تلعب بحلفائها وخصومها الوهميين، ولا يهمها من ينفذ، مرة مرتزقة (جيش سورية الجديد) في البوكمال، ومرة (وحدات الأسايش الكردية) في الحسكة، ومرة (تنظيم الدولة) في جبل الثردة. المهم لديها أن تكون لها المبادرة العليا في الشرق السوري.

تدرك كل من دمشق وموسكو ما يحصل، وقد ركزت وسائل إعلام عربية وغربية بشكل كبير على ما حدث، بفعل الاعتراض الشديد من قبل الحكومتين السورية والروسية. إن الرد العسكري والدبلوماسي السوري، والمبادرة الروسية السريعة للرد على العدوان الأمريكي، يدلان بوضوح على أن الشرق السوري ميدان صراع قادم خطير وطويل الأمد. ومهما يكن من أمر، تطورات الشرق السوري مؤشر واضح على عدم استعداد قطبي الصراع في سورية لتثبيت تفاهمات حقيقية ومُلزمة تنهي صراع عميق طالْ، يدفع ثمنه الشعب السوري ويزيد من وطأته بنية الدولة الهشة المحكومة بالفشل المؤسساتي والإداري.

العدد 1105 - 01/5/2024