الهوية الاقتصادية والنهج التنموي

 كان الحديث عن الهوية الاقتصادية قبل الأزمة المعقدة من باب التمني أو التنظير أو الحنين لتطبيق الأفكار، وكان الجدال الأكبر بين مدرستي الاشتراكية ومضمونها الإنساني العائم، والرأسمالية ومضمونها المالي المغموس بعرق الإنسان ودمه. ولكن التطورات الاقتصادية العالمية والتحولات البنيوية الكونية أدت إلى انقلابات جذرية برؤى البعض وآرائهم، فتحولوا جذرياً من متشددي الشيوعية والاشتراكية إلى منظري الليبرالية، التي ثبت أنهم لا يعرفون معناها ومغزاها، وكأن الجدال على هوية الاقتصاد السوري كان للأغلبية مبرمجاً وذا مدلول سياسي دعائي أكثر مما كان إيماناً وغاية مطلبية.

الخلفية السياسية لتلك الخطابات، ولو كانت اقتصادية، كانت ملتصقة بالبنى الفكرية وبالمساعي الأمنية والتنموية، وكأن التحالف الإيديولوجي كفيل بتأمين الاحتياجات الاقتصادية للدولة وخاصة في المعسكر الاشتراكي الذي كانت تحصينات قطبيته للدول المنضوية لا تقتصر على المساهمة في الحماية الأمنية والعسكرية، وإنما تجاوزتها للحماية الاجتماعية عبر تطبيق النموذج الاقتصادي الاجتماعي الساعي للوصول إلى بنى اجتماعية غير متصادمة وشبه خالية من أمراض الفقر والبطالة والمديونية الخارجية والتبعية المعرقلة لأي تطور. ولكن نهاية الحرب الباردة قد أعطت الحرية للقواد الجدد لطمس أي رؤية اقتصادية أخرى ذات نتائج مقوية للهوية الوطنية، وذات بنى صلبة تحميها من الغزوات الدموية الإرهابية من دول تدعي محاربة الإرهاب، وكان ما كان بيوغسلافيا والعراق وليبيا والحرب القذرة على سورية، وإن كان المدخل هو صراع بين هذه الرؤى وفرض تطبيق الرؤية ما بعد الليبرالية، الهادفة إلى تحطيم النتائج التنموية وكل ما نجم عنها من تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية.

في ظل هذه الظروف التآمرية استمرت أصوات المنقلبين والمنظرين كأداة إعلامية أو كأبواق تنظيرية للمناداة بما أطرته القوى المعولمة لسيطرة رأس المال المركز من برامج هدفها تقويض العدالة الاجتماعية والحرية المنضبطة والمساواة وتحرير البلد من قيود وألغام التبعية والقروض التوريطية، وعاد الجدال حول ما هي هوية الاقتصاد السوري؟ بين قوى تتبنى الليبرالية فكراً أو تلقيناً، ولكنها بعيدة عن الواقع. فالليبرالية تعني الحرية بكل أنواعها ومنها الاقتصادية، وهي بحاجة إلى بنى منضبطة وقوانين صارمة وإلى علاقات اقتصادية معينة، وهو ما لم يتوفر بسبب سياسات أدت إلى تصادم بين الرأسمال ذاته، وبين الرأسمال والحكومة، وهو ما نجم عنه تصدع بنيوي وصراعات استُثمرت. فأي ليبرالية في ظل احتكار القلة؟

خلال الأزمة وفي ظل العقوبات والحصار، من بديهيات إدارة الأزمات أن تصبح الحكومة هي الآمر العام لأي سياسة اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية وسياسية، وأن يكون هناك حكومة أزمة. إن الليبرالية أو نهجها هو استمرار القتل للبلد المأزوم، وما بعد الأزمات يُفترض أن تصبح البرامج أكثر خصوصية وتكون هناك أولويات للعلاج والإحاطة بالكثير من النتائج الاجتماعية، والتوجّه نحو عدالة اجتماعية، اعتماداً على ما يحويه البلد من مقدرات وإمكانات، باتجاه التحصين الاجتماعي وترميم الجراح. وقد يحاول دعاة الليبرالية أو النيو ليبرالية الضغط على الدولة من أجل فرض نماذج تزيد الجرح وتعرقل أي تنمية قادمة، مستغلين محدودية الإمكانات والموارد، في سعي يضاعف أرباحهم غير مهتمين بمنعكساتها على البلد والشعب. وكلنا يعلم ما جلبته هذه السياسات الرأسمالية بمعزل عن تناقضاتها وشموليتها الداخلية.

أدت الليبرالية الجديدة إلى شكل جديد للاقتصاد الرأسمالي الدولي، فأي ليبرالية وأي إنسانية في ظل نهج تسعى أدواته لتكريس الأموال والأرباح، ولو بقتل الإنسان والسعي لقتل أي نفس من برامج العدالة الاجتماعية كانت الأساس لبناء البلدان الوطنية المحصنة والقابلة للاستمرارية وللاستقلالية؟

 في ظروف كهذه يبقى الاختيار الأكثر فعالية هو وضع برنامج وفق أولويات ممكنة التحقيق سعياً للعودة إلى تقوية البلد عبر برامج وسياسات تسعى لتحقيق أقصى ما يمكن من العدالة الاجتماعية، وصولاً إلى عودة اللحمة وتقويض الفساد وأدوات التأزيم، نهج تنموي يعتبر الإنسان غاية التنمية وأداتها، عبر برامج واضحة   تعتمد على التعاون بين كل القطاعات، لاستثمار الموارد والإمكانات المتاحة محلياً، وجذب المهاجرين والأموال المأمونة. وهذا النهج لا يقتصر على التنمية الاقتصادية فقط، وإنما يشمل كل أنواع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والتعليمية. وهكذا فالمشاركة والتشاركية بين العام والخاص في المجالات كافة ضروري للانطلاق بهذا النهج وفق برامج واضحة وقيادة حكومية صريحة، هادفة لأكبر عدالة ممكنة في ظل قوانين صارمة، وفي ظل دور مؤسساتي قوي وضابط فارض للقوانين على الجميع، في ظل نوايا حسنة ومراقبة ومتابعة ومحاسبة ومراجعة.

المطلوب هو تبنّي نهج تنموي وفق مركزية الحكومة في التخطيط والتوجيه والإدارة، وفق مفهوم تشاركي وطني حقيقي، وهذا لا يتناقض مع ما طولب به من لا مركزية مضبوطة للمحافظات، وإنما أن تكون الغاية الكبرى للبرامج هي الوطن والمواطن، وألا تكتب وتفرض من الخارج أو أدواتهم الداخلية.

العدالة الاجتماعية هي العنوان والحصن الحصين والنهج التنموي هو الطريق إليها.

العدد 1105 - 01/5/2024