الإصلاح الإداري الاقتصادي الاجتماعي للمؤسسات الاقتصادية..حقيقة أم مجرد أمنيات؟!

 قبل الحرب كنا نحتاج إلى إصلاح اقتصادي، والآن نحن بحاجة ماسة إلى اقتصاد إصلاحي، فالواقع الاقتصادي الاجتماعي هو، في البداية والنهاية، نتاج إنساني. وكما قال كارل ماركس: (أسوأ مهندس معماري أفضل من خلية نحل). وقد تناولت دراسات هامة العملية الاقتصادية، بقطاعيها العام والخاص، ومازال يتداولها علماء الاقتصاد والاجتماع. وهذه العملية تبدأ من الإنتاج، والتبادل، فالتوزيع، وصولاً إلى الاستهلاك.

القطاع العام في سورية، في ظل الأزمة المستمرة، هو القطاع الأكثر تضرراً، ويمكن القول إن واقع التنمية في سورية يختلف عن واقع الأزمات الاقتصادية التي خلفتها الحرب، التي أثرت تأثيراً سلبياً على إنتاجية العمال؛ فطبيعة الخدمات والحوافز التي تقدمها مؤسسات القطاع العام هي التي تؤثر على ما يحفزهم للعمل؛ فالعمال يتحفزون في المؤسسات من خلال أداء ما يعتقدون أنه أكثر ارتباطاً بمصالحهم. وما تشهده سورية اليوم من ضغوطٍ اقتصادية وتهديدات وحصار اقتصادي تفرض علينا حشد جميع الجهود والإمكانيات المادية والبشرية، من أجل تعزيز قدرتها على الصمود والمواجهة؛ فالمواجهة العسكرية لا يمكن أن تستمر إلا في ظل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن أن الاقتصاد السوري يعاني من تقلبات واختلالات جوهرية تعود إلى مشكلات تتعلق بانخفاض القدرة الشرائية لليرة السورية من جهة؛ واستنزاف ثرواته وخيراته من جهة أخرى. من هنا كانت المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات الاقتصادية ودورها في تنمية الموارد البشرية وتأهيلها وتدريبها، بعد أن شاهدنا تدهوراً في الرأسمال البشري المتضرر الأول نتيجة سياسة التوظيف غير العادلة؛ وغلاء الأسعار؛ واتساع فئة العاطلين عن العمل. الأمر الذي يجعل البرامج الاقتصادية_ الاجتماعية للقطاع العام، وحدها، غير قادرة على سدّ هذه الفجوة، إذا ما أرادت تحقيق أهداف التنمية في العدالة الاجتماعية التي ظلت ترعاها حتى الرمق الأخير.

بناءً على ما سبق نطرح السؤال التالي: هل تستطيع المؤسسات الاقتصادية للقطاع الخاص تلبية متطلبات النهوض والتقدم، وبالتالي تحقيق تنمية اقتصادية _اجتماعية؟ أم أن مؤسسات القطاع العام كفيلة بأن تتحمل هذه المسؤولية بمفردها؟ كيف يمكن لنا الحديث عن دور مستقبلي للقطاع العام، وقد بلغت قيمة الخسائر التي أصابت مؤسسات القطاع العام في سورية بسبب الأزمة 1,5 تريليون ليرة سورية (7,5 مليارات دولار)؟

 إن (مجمل مبالغ التعويضات لأضرار الجهات العامة بلغت قرابة تريليون ونصف تريليون ليرة سورية). وإن 250 مليار ليرة سورية (1,25 مليار دولار) من هذه الخسائر هي (أضرار مباشرة) تكبدتها المؤسسات العامة منذ اندلاع الحرب؛ وبلغ عدد المنشآت الحكومية (التي تعرضت للتخريب أو التدمير) أكثر من 9 آلاف منشاة، وقدّر حجم الأضرار التي لحقت بقطاع الكهرباء (بفعل الاعتداءات المتكررة بنحو 80 مليار ليرة سورية = 400 مليون دولار). إن شعار (التطوير والتحديث) الذي ترفعه سورية اليوم قد يتماشى مع نهج الإصلاح البطيء الذي تسير عليه، لكنه لا يتماشى مع التحديات ومتطلبات التعامل معها، فهي تتطلب شعاراً كشعار (القفزة الكبيرة إلى الأمام) الذي طرحته النمور الآسيوية كاليابان والصين في أواخر الستينات لتهتدي به، وهي تسرع الخُطا للحاق بالعالم الصناعي.

المطلوب بداية، الإقرار بأننا في أزمة ولسنا في مجرد مشكلة، والأزمة تتمثل في تدني معدلات النمو وتزايد البطالة، وتدني القدرة على المنافسة في اقتصاد سوق مفتوح على مصراعيه للتجار، مما يعرّضنا لخطر التهميش. والمطلوب ثانياً، اتخاذ مجموعة من الخطوات الأساسية حتى تستطيع سورية الانطلاق من عقالها. أولى هذه الخطوات كسر الجمود الفكري القائم حالياً، من خلال قيام التجار والدولة بمبادرة يوضحان فيها رؤيتيهما بشأن هوية الاقتصاد السوري المستقبلي، ويقومان بصياغة إطار فكري واقتصادي جديد من خلال منظومة معرفية. ولا بد لمثل هذا الفكر الجديد من أن يقوم على التبني الصريح لنظام السوق (الذي أثبت برغم نواقصه أنه يؤدي إلى استخدام أفضل للموارد من نظام الأوامر الإدارية)، ولأولوية القطاع الخاص في العمل الإنتاجي، من خلال قيام مديريات تنمية الموارد البشرية بتدريب وتأهيل الموارد البشرية لمؤسسات القطاع الخاص، من أجل توحيد العملية التنموية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية لكلا القطاعين؛ معتبرين أن مبدأ الملكية الخاصة حق وليس منحة، ومتجاوزين مبدأ (التعددية الاقتصادية)، ومنتقلين إلى مفهوم جديد مبني على الشراكة بين القطاعين العام والخاص، شراكة يضطلع فيها القطاع الخاص بالدور الريادي في النشاط الإنتاجي (لا دور الرديف)، ويضطلع فيها القطاع العام بالدور الريادي في عملية التنمية الإدارية و الاقتصادية _الاجتماعية.

وفي اعتقادي إن هذه خطوة لا بد منها لتخطّي عقدة رئيسية تعيق سورية من الانطلاق في إصلاحها الاقتصادي. وما لم يتحقق تخطي هذه العقدة فستظل البرامج والقرارات الاقتصادية متخبطة؛ وسيظل تطبيقها يتعرض للتردد وللبطء؛ ولن تستطيع سورية جذب أي من الاستثمار الوطني الخاص أو الاستثمار العربي والأجنبي على نطاق واسع.

بالنسبة إلى دور الدولة، فإن الإطار النظري الجديد يحتاج أن يحدد دوراً جديداً لها، لا يكتفي بدورها التقليدي في نظام السوق (المرتكز على ضمان الأطر القانونية والمؤسساتية لعمل السوق على وجه أفضل وتعزيز المنافسة فيه)، بل ينتقل إلى أفق أبعد، يتضمن تحمل الدولة دور التخطيط والتركيز على القضايا الاجتماعية وقضايا التنمية البشرية والتكنولوجية، وعلى تحديد فرص الاستفادة من العولمة وأساليب التصدي لتهديداتها وغيرها من الأدوار. هذا الدور للدولة لا بد منه في سورية كما في عالمنا النامي بشكل عام، ومخطئ من يظن أن الليبرالية الاقتصادية ونظام السوق وحدهما يمكن أن يأخذا سورية أو أي دولة نامية أخرى إلى بر الأمان من دون تدخّلٍ ودور للدولة؛ على أن يكون هذا الدور خارج العملية الإنتاجية التي تلامس المتطلبات الأساسية للمواطن السوري. والتجربة السورية الجديدة للإصلاح الإداري التي تبنّتها رئاسة مجلس الوزراء في الاجتماع الموسع المعلن، وبتوجيه ودعم من سيد الوطن الدكتور بشار الأسد لا تقل أهمية عن تجربة البلدان التي كانت نامية وتطورت.

بانتظار عودة الروح للمؤسسات الاقتصادية، إذا تحقّق تنفيذ الخطة والالتزام بمضمونها وتطبيقها على أرض الواقع الاقتصادي _الاجتماعي لسوق الرأسمال البشري في المؤسسات الاقتصادية السورية للقطاعين العام والخاص؛ ستصبح سورية هي النمر الآسيوي الجديد الذي سيتحدى الصين واليابان في المستقبل القريب. وسورية من البلدان النامية التي اتخذت من عملية التنمية نمواً جديداً سيجعل شتاءها يزهر قبل ربيعها؛ ويثلج صيفها قبل شتائها؛ وينقلب تاريخها وحاضرها إلى مستقبل جديد. 

العدد 1107 - 22/5/2024