سلالم الصعود

يفتقدها العرب لافتقادهم مفهوم الديموقراطية السياسية، وافتقارهم إلى البرمجة الصحيحة في إدارة الموارد البشرية والطبيعية، وعدم اكتراثهم بالعلوم التكنولوجية، حكايات كثيرة تجعل العرب بعيدين جداً عن حركة التطور العالمي.

في مدخلٍ للحديث أقول: كان من المعتاد أن تزور البلاد مجموعات طبية أوربية متخصصة تخصصاً دقيقاً في بعض المجالات الطبية كطبّ القلب وطبّ العيون مثلاً، وتستمرُّ الزيارة لأكثر من شهر، لتقديم المساعدة والخبرة في علاج العديد من الحالات الصعبة.

وبالطبع يحدث الازدحام على مكان وجود هذه المجموعات من المواطنين المرضى، لأنها توفر عليهم مشقة السفر للعلاج في الخارج.

استغرب رئيس إحدى هذه المجموعات، بعد أن لاحظ الازدحام الشديد من الناس، وقد اقترب الوقت لإنهاء مجموعته الطبية زيارتها وتستعدُّ للمغادرة، ولم يُنظر في جميع الحالات المرضية، إذ إنه كان يوجد معه في الجامعة الأوربية التي درس فيها عدد كبير من الأطباء السوريين، وكانوا متفوقين في معدلات تخرجهم باختصاصه نفسه
فتساءل: أين هم الآن؟ ولماذا لا يعملون في علاج مثل هذه الحالات؟ ثم تابع هذا البروفيسور كلامه مجيباً عن سؤاله قائلاً: يبدو أنَّه لا أحد هنا يهتم بموضوع إدارة الموارد البشرية، وهنا تكمن المشكلة.

وفي حكاية ثانية إنَّه في سبعينيات القرن الماضي عاد إلى القطر بعد أن أنهى دراسته في الخارج شابٌّ يحمل درجة الدكتوراه في علوم الفيزياء النووية، لم تجد له الدولة عملاً في اختصاصه، ولم تفكر بمستوى شهادته ونوعيتها ولزومها أصلاً، حتى لم تضعه مدرساً في الجامعات والمعاهد والمدارس، لأنه كان منتمياً إلى حزب يحظرُ عليه النشاط في مجال الطلبة
ومن المضحك يوم ذاك أن جرى تعيينه في أرشيف أحد مراكز البريد والهاتف، وهذه الحكاية لا تعني هذا الشاب فقط،  بل هي حكاية الكثير من الشباب المؤهل علميا، لم يتح لهم العمل وتقديم خبراتهم لما فيه الفائدة لمجتمعهم الذي هو بحاجة أكيدة لهم، وهي حكاية لموضوع يتكرر كثيراً.

إذاً كما قال الخبراء لا أحد هنا يهتم بموضوع إدارة الموارد البشرية التي هي من أهم أسباب التطور الحضاري، إضافة إلى إدارة التعليم والمتابعة الصحيحة لنتائجه، وإدارة الموارد الطبيعية، تلك الأمور هي التي تنتج مجتمعاً حضارياً مكتفياً اقتصادياً وعلمياً وإدارياً، وبالطبع إن الاكتفاء الاقتصادي والعلمي والإداري يعني الارتقاء بكل المجالات التي تنهض حضارياً بالدولة والمجتمع.

صحيح أنه توجد في الدول المتخلفة الكثير من المدارس والمعاهد والجامعات، ولكن هي ليست أكثر من هياكل شكلية، كمن يصنع الصناديق لتخزين الأواني الزجاجية الهشة، دون الاهتمام بطريقة ترتيب هذه الأواني ودون الاهتمام بطريقة النقل والتسويق، فتكون النتيجة أواني محطمة متكسرة. ولأنه لا يوجد تخطيط لاستيعاب الخريجين في سوق العمل
تتكسر النفوس كما تكسرت تلك الأواني الزجاجية، لذلك تتفشى الأمية والبطالة والأمراض الاجتماعية والفقر والعوز وعدم الاكتراث، كلها من الأسباب التي تبقي المجتمع مريضاً مجروحاً لكثرة شظايا الزجاج المتكسر، هذا هو حال المجتمعات العربية بشكل عام.

ما هو السر الذي يجعل دولة صغيرة بالمساحة كهولندا مثلا، تطعم العالم من منتجاتها الزراعية والحيوانية، وكل مقياس مساحتها الزراعية، وكل ما فيها من الثروة الحيوانية، لا تعادل جزءاً صغيراُ من المساحة الزراعية ومن تعداد الثروة الحيوانية التي توجد في أي دولة عربية؟ السر بسيط جداً فقط هو التخطيط الصحيح لإدارة الموارد البشرية والطبيعية
ذلك التخطيط الذي لا يوجد أبداً في مفهوم الإدارات العربية، التي ستبقى شعوبها جائعة، رغم امتلاكها الكثير من الثروات الطبيعية الباطنية والسطحية.

وإن أخذنا على سبيل المثال أيضاً إدارة الثروة النفطية في العالم العربي، نجد أنها مهدورة دائماً على أمور ليس لها علاقة بالتقدم والتطور، بل يتمُّ إهدارها على تأجيج المشكلات السياسية والطائفية الداخلية والخارجية
وعلى بناء القصور والفنادق الفاخرة وشراء السيارات والأسلحة، ولذلك صارت الفجوة كبيرة جداً بين العرب وبقية دول العالم في التقدم والرقي الحضاري في كل المجالات، رغم وفرة الموارد الاقتصادية عند العرب.

وبعيداً عن الحديث عن افتقار العالم العربي إلى أي شكل من أشكال الديموقراطية السياسية، التي هي أخطر مشكلة تعيق التقدم والتطور في كافة المجالات، هناك المشكلة الأهمّ أيضاً التي يعانيها العالم العربي وهي مشكلة عدم مجاراة العالم في مجال التكنولوجيا والعلوم التطبيقية، اللتان هما القوتان الرئيسيتان لإثبات الوجود في هذا العصر
واقتصار اهتمامهم على العلوم النظرية الفلسفية والشرعية وعلوم التاريخ والتراث والآداب، وهذا أيضاً من أسباب ضعف العرب بشكل عام في المجالات كافة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024