ما بعد الغوطة وأفق الخلاص والانتعاش

يأخذ موضوع تحرير الغوطة أهمية تختلف عما سبقه، وذلك من نواحٍ كثيرة، رغم الإيمان المطلق بأن أي ذرة تراب سورية وكل نقطة دم أغلى من كنوز الدنيا وما فيها.

فالغوطة من النواحي الجغرافية والسياسية والنفسية محيط للعاصمة التي تضاعف عدد سكانها، وعلاقاتها متبادلة متغلغلة متشابكة مع المحيط ومع كل المحافظات، وكذلك هي محيط للأوتستراد الدولي بين دمشق وأغلب المحافظات السورية، وعودة الشريان المسدود سيوفر كثيراً من والوقت والجهد والثقة والأمان، ومن الجانب الصحي يحتوي محيطها على منشآت صحية مهمة وشبه متفرّدة كمشفى البيروني لأمراض الدم و السرطان ، ومشفى الشرطة وهو مشفى كبير ويقدم خدمات صحية لأعداد كبيرة، ومشفى تشرين وهو من أهم مشافي سورية، وتقع تلك المنشآت على خطوط التماس، وكان نصيبها من القنص والرصاص المتفجر وقذائف الهاون والتفجيرات لا يتأخر على مدار اليوم أو الساعة، وكذلك المنشآت الصحية في المناطق التي كانت تصل إليها القذائف القاتلة. وهذا التحرير سيزيد من إمكانية توسع الخدمات وجرعات الأمان للمواطنين لارتيادها، وكذلك لسكان الغوطة الذين كانوا مرتهَنين دروعاً بشرية وأعيدت لهم بواعث الحياة في حضن الوطن.

أما من المنظور الاقتصادي فسوف تفتح آفاقاً كبيرة على مستوى الاقتصاد الكلي لسورية، والجزئي لدمشق ومحيطها، وذلك يشمل كل القطاعات، ولكن تحقُّق هذا بحاجة إلى سياسات وبرامج سريعة وجدية ومنطقية، ونأمل ونسعى أن يستثمَر هذا الإنجاز الاستثمار الصحيح، وأن لا يُقطَع بسلوكيات مفرغة كما حصل مع الكثير من المناطق التي حُرّرت سابقاً، فكما نعرف راهنت الإمبريالية على الإسقاط الاقتصادي منذ البدء، وما زالوا يراهنون عبر أدوات داعشية فاسدة مقوِّضة للانتصارات التي تحققها المؤسسة العسكرية، وكيفية التعاطي ستدل على مدى العمل وفق السياق الوطني الصحيح البناء، فالنجاح من منظور الإدارة الأزموية الكلية، لا يعني عدم وجود ثغرات قد تتماهى مع ما يتمناه الآخرين للولوج إلى أهدافهم القذرة. ولذلك ما يهمنا ونعمل عليه هو الاستثمار الصحيح لهذا الإنجاز الذي أخذ الطابع الوطني السوري بشكل شبه كامل، فالمنظور الإنساني الوطني العقلاني السوري تفوّق وخفف من الدماء وأعطى أفق الحياة لمئات الآلاف من السوريين مسلوبي الإرادة، هؤلاء الذين أعلنوا انتماءهم للدولة السورية وافتخارهم ورهانهم على الجيش السوري. ومن هذا المنظور كان النجاح إنجازاً فرّغ كل الأفخاخ المنصوبة بأعلى مستويات التخطيط والاستثمار العالمي وفق أدوات وأسلحة وكوادر إرهابية استخباراتية من دولهم الصانعة للإرهاب، وهو ما نتمناه في التعاطي مع كل الملفات (نازحين، مهجرين، موقوفين، والتعاطي السريع مع ملف الأسرى، وهذا الإنجاز سيزيد الأفق الاقتصادي المفتوح عبر تحرير الغوطة وفق هذه الرؤية التي ستزيد الأمان والأمن العسكري والاجتماعي، وتزيد الطاقات البشرية المسلوبة قدرة على العطاء والاندماج في الحياة السورية بكل تفاصيلها.

أما من الناحية الاقتصادية المباشرة، فالغوطة تعد الخزان الغذائي لدمشق، وإنتاجها سيترك أثره الإيجابي في تخفيض أسعار السلع تدريجياً، ولاسيما إذا ترافق ذلك مع سياسة نقدية مستقرة تضمن تقوية الليرة السورية التي ظهر في فترات سابقة أنها تحلق في فضاء عال يمكن تخفيضه بسهولة واستعادة بعض قوتها، وهذا لن يتحقق كما يرغب السوريون جميعاً إلا عند اتخاذ إجراءات استثنائية تضمن إعادة تشغيل المنشآت الصناعية والحرفية وإعادة زراعة أراضيها الخصبة في أسرع وقت ممكن، بغية إنتاج سلع معقولة السعر تطرح على نحو يكفي حاجة الأسواق ويكسر احتكار بعض التجار وتحكّمهم بالأسواق، فهل ستبادر الجهات المعنية إلى إعداد خطة مدروسة بدقة لضمان استثمار نصر الغوطة على نحو مجدٍ اقتصادياً، يسرّع وضع منشآتها الحرفية والصناعية في الخدمة لتحقيق الفائدة المرجوة للاقتصاد والمواطن؟

 وما يبنى على هذا الانتصار هو عام يصل إلى حد توقع حصول انفراج شبه شامل ليس ببعيد، أقله على صعيد تخفيض أسعار السلع عند عودة ضخ الغوطة منتجاتها في الأسواق، وهذا يتطلب ورشة عمل فعلية تضمن إنعاش جيوب المواطن والاقتصاد المحلي، فاسترجاع أي منطقة يعطي مؤشراً إلى قوة الدولة، ولاسيما في ظل اتساع رقعة المناطق الآمنة، فكيف إذا كانت هذه المنطقة هي غوطة دمشق، التي يعطي استرجاعها ثقة أكبر بقرب الحل النهائي، وتالياً يشجع أكثر على الاستثمار وعودة الأموال والكفاءات المهاجرة، كما أن عودة الحياة الطبيعية إلى ربوعها مع رجوع الأراضي الزراعية والمهن والحرف التي كانت منتشرة كصناعة الأثاث المنزلي وغيرها سيحدث فرقاً اقتصادياً واضحاً.. تشكل غوطة دمشق خزان أمن غذائي لسكان العاصمة، إضافة إلى دورها في تحريك عجلة الاقتصاد السوري عبر تشابكات التبادل التجاري بينها وبين الأسواق المحلية والخارجية، إضافة إلى أن أهالي الغوطة، تراكمت لديهم خبرات ومعارف هائلة في كل العمليات الزراعية والتصنيع الزراعي، كما أثبتوا براعتهم في تربية الحيوانات وتصنيع منتجاتها، ففلاح الغوطة لا يترك أرضه خالية على مدار العام، فهو يقوم بزراعتها باستمرار، لذا كانت منتجات الغوطة توفر حاجات سكان دمشق ومحافظات أخرى من السلع الزراعية، فضلاً عن تصدير كميات كبيرة من السلع، ولاسيما عند معرفة أنه في الغوطة وحدها توجد أكثر من 58 وحدة تصنيع للمنتجات الزراعية، وأكثر من 85 وحدة وورشة لتصنيع الألبان، وعودتها كلها إلى دائرة الإنتاج ستؤدي إلى تخفيض أسعار هذه المنتجات، إضافة إلى الثروة الحيوانية الضخمة التي تحتويها الغوطة وقدِّرت بمئات الآلاف من الغنم والأبقار والماعز وما تنتجه من مواد غذائية ستزيد العرض في سوقها، مما سيؤثر على الأسعار.

 أما بالنسبة للصناعة والمهن والحرف فغوطة دمشق كانت تضم مئات الورش والمعامل التي تصنع مختلف الأصناف، لكنها تضررت على نحو كبير جداً تسبب في خروج نسبة كبيرة منها من الخدمة نهائياً، ما ترك أثره السلبي في الصناعة المحلية، وتالياً في المواطن، عبر رفع أسعار منتجات هذه السلع بسبب عدم وجود كميات تكفي حاجة السوق، لكن مع بدء عودة الغوطة كاملة بدأت الآمال تنتعش في نفوس الصناعيين والحرفيين بالعودة إلى منشآتهم، ومعروف أن الغوطة وما حولها تضم معامل كبيرة للقطاع العام (الخماسية ، تاميكو)، ومؤسسات إنشائية، وآلافاً من الورش والمصانع المتوسطة والصغيرة (ورش الدباغة، المفروشات، قص الرخام والبلاط، الصابون، الورق، المنتجات الغذائية وغيرها) ، وأغلب مالكيها يعملون بهمة لإعادة إقلاع منشآتهم وهم بانتظار اتخاذ الإجراءات اللازمة للعودة إليها، وكل هذا سيوفر على الدولة تكاليف استيراد الضروريات بالعملة الصعبة، وكذلك سيزيد العرض من المواد، ما سيؤثر على تخفيض الأسعار، وكذلك سيشجع على زيادة الاستثمارات المحلية والأجنبية وخاصة أنه إضافة إلى الأمن والأمان بمحيط الغوطة، هناك المنشآت الحاضنة لهذه الاستثمارات، كالمنطقة الصناعية والمنطقة الحرة. إضافة إلى ذلك فإن عودة الأمان إلى الغوطة سيؤدي إلى تنشيط السياحة، بإعادة الحياة إلى دمشق القديمة بشكل سيؤدي إلى تنشيط السياحة الداخلية، وكذلك عودة كثير من الآثار الدينية إلى الدولة. ويزداد الأمر تحسناً عند استرجاع الأمن إلى الأوتوستراد الدولي من جهة حرستا، ما يوفر الكثير من الوقت ويعيد النشاط التجاري والصناعي للجهة المقابلة، لذا ستسهم حركة التنقل في تنشيط السوق ورفد سوق العمل بعمالة جديدة كانت محاصرة.

وهكذا فإن نصر الغوطة سيكون له أثر كبير في زيادة النشاط التجاري والصناعي على مستوى سورية بشكل كامل، وتشجيع عودة الأموال والاستثمارات والكفاءات. لذلك يجب إعداد برنامج واضح متضمناً توزيع الحرف والحيازات والتهيئة لآلية الدعم والتعويض للإسراع في عودة أهلها، والانطلاقة السريعة بالعمل لاستثمار هذا النصر المهم، وبالنسبة إلى أن موضوع الاستثمار الزراعي أسهل من غيره لكونه مرتبطاً فقط بتسهيل الإجراءات والخلاص من الروتين والتعقيدات الإدارية، والتفاؤل بموضوع الغوطة يختلف عن موضوع حلب، لكون حلب كانت مشلولة وبحاجة إلى جهود كبيرة لاستثمار نصرها الكبير، في حين أن إعادة إعمار الغوطة أسهل لأنها تضم حرفاً ذات تكلفة مالية صغيرة، فهل سنجد استثماراً صحيحاً لهذا الانتصار العسكري بشكل برامج وسياسات توازيه وتتناسب معه، أم سيستمر السياق المألوف؟ وهل ستتحسن المؤشرات الاقتصادية بشكل يحسن مستوى معيشة المواطنين ويقوّض دور تجار الأزمة والدم ودواعش التأزيم؟ وهل سيصوّب مسار الإدارات المدنية بإصلاح إداري حقيقي منطلق من تعيينات وأدوات وقوانين وإحاطة بالفساد، أم يصبح الجيش للحرب والإعمار والبناء هو ضرورة حل وطني شامل؟ 

العدد 1105 - 01/5/2024