المشاركة والتشاركية الاجتماعية

 الأمن الشخصي والوطني هو الحاجة الثانية التي يسعى إليها الإنسان، بعد الحاجة إلى الغذاء، وإن تحقيق هذا الأمن يسهل الأمر على الجهود والتكاليف الملقاة على عاتق المؤسسات المختصة ويقوض نوايا الآخرين الطامحين بتحقيق مصالحهم على حساب الآخرين ولو كان على حساب الدم والدمار والانحطاط القيمي الأخلاقي، وبذلك فإن تحصين الفرد عبر إشباع حاجاته ورغباته هو تحصين للبلد المعني، وتتمثل هذه الحاجات بالحاجة إلى الغذاء، المسكن، التعليم، الصحة، الأمان الشخصي، والحرية المنضبطة قانونياً واجتماعياً. والوصول إلى هذه الحاجات يحتاج إلى طاقات كبرى وتعاون ومشاركة أغلب الطاقات وتختلف الطاقات والجهود اللازمة لتحقيقها حسب مراحل التنمية التي وصل إليها المجتمع المعني المدروس، وكلما ارتقى ووصل إلى القمة قلّت الإمكانات اللازمة وتوسع أفق ما يمكن منه وصولاً إلى رفاهية تميز المجتمع عن غيره.

وفي سورية قطعنا وتجاوزنا مسافات مميزة عن غيرنا من البلدان وفق انتشار أفقي وعامودي ما انعكس على تحصين الإنسان والفرد والتخطيط لتوسيع ماهية وحجم ما يجب أن يقدم وفق متطلبات الواقع و عقلية الانطلاقة الحذرة، وهو ما نظر له بنهج اقتصاد السوق الاجتماعي، هذا النهج الذي اتبعته ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية للعودة القوية، وهو ما اختارته جمهورية الصين للإحاطة بالتغيرات العالمية والسير قدماً بقطار نمو اقتصادي تنموي متسارع. وضمن أدوات هذا النهج كان طرح التشاركية المكملة لعمل القطاع العام الحكومي الموسعة للطاقات والمساعدة للتصدي للحاجات الاقتصادية والاجتماعية، وإن العمل وفقها من جانب واحد يوصل إلى منح مزايا قائمة لفئة مما هو موجود كنوع من خصخصة مبطنة هو خروج عنها وعن مسارها، وما يهمنا لم تكن التشاركية بكل مفاهيمها حاجة اجتماعية أو اقتصادية أو وطنية، وإنما هي التفاف على الموضوع بمداخل كانت سلبية النتائج والآثار، وهو ما جعل هذا المصطلح يأخذ الشكل التشاؤمي السيئ. ولم تكن الأمور بهذا المنطوق فقط، وإنما كان السعي الأكبر للمشاركة السائرة نحو الاحتكار عبر تخسير القطاع العام الصناعي وقتله وتهديمه، أو إقحامات بالخدمي توصل إلى سلب خياراته وجعله عبئاً كبيراً. ما يهمنا أن هذا التسارع لتشاركية وهمية اقتصادية لم يقابله أي سعي لمشاركة أو تشاركية اجتماعية إلا لغايات أبعد ما تكون عن البناء التنموي أو الاجتماعي. وخلال الحرب القذرة الكارثية كان هناك محاولة لتصحيح الانحرافات التي نجمت عن التطبيق الخاطئ للتشاركية كاعتراف بالأخطاء وكذلك ضمن منظور الحاجة لكل الطاقات للعودة والانطلاقة وإعادة الإعمار الاقتصادي، وهذا سلوك صحيح ولكن ما يجب معرفته أن الانعكاسات الاجتماعية للأزمة تقارب بل وتتفوق على المخاطر الاقتصادية، لأنها نالت من الإنسان الذي هو أساس التنمية وغايتها وأي انطلاقة من دون بنائه الصحيح ستكون منقوصة. وكلنا يعرف ما نجم عن هذه الحرب القذرة من مخاطر وأمراض و كوارث: مئات آلاف من الشهداء، أكثر من مليون معاق، تسرب مدرسي خطير تجاوز المعقول، طلاق كبير، عنوسة متزايدة، تفكك أسري، إعاقات فكرية وأمراض نفسية، ملايين النازحين غير المستقرين، وملايين المهاجرين، تضاعف نسب الفقر والبطالة المقنعة، اغتصاب، أولاد مكتومو القيد، وآلاف قضايا الثأر القادمة وثقافات جديدة وإن أصبحت بمسار الانحدار: القتل، العنف، الطائفية، الإقصاء، التهميش، المافيات، تجاوز القوانين، الفساد وغيرها، وهذه الانعكاسات قنابل موقوتة بحاجة إلى تفريغها من محتواها المتفجر وإن كان مبرراً التأني في التصدي لها وإن كانت ترصد، فقد حان الوقت للبدء بعلاجها، وهذا يتطلب جميع الجهود الوطنية وصولاً إلى إعادة بناء الإنسان السوري الذي كان أهم أهداف الحرب المدمرة تدميره وتفريغه وقتل جذوره وإن هذا الإنسان هو سبب صمود واستمرار سوريتنا لتجذره وعمق انتمائه سواء كمقاتل أو مفكر أو قيادي أو عامل أو فلاح ، أنثى أو ذكراً، ومن هنا فإن الواجب الوطني هو التعاون والمساعدة بالتصدي لهذه المشاكل عبر تعاون الجميع حكومة، مجتمع أهلي، مؤسسات ومنظمات ومجتمع مدني منظم ومنضبط بما نريده وليس كحالة اختراق و تدمير، وقد كانت الكثير من المنظمات تشارك بهذه النشاطات كالنقابات المختلفة والجمعيات الأهلية وبدلاً من استغلالها وجهودها وكوادرها خلال الأزمة قلِّصت وحيِّد أغلبها رغم الطاقات البشرية والمالية والمادية التي تمتلكها.

أكيد نحن مع التعددية والتشاركية والتعاون، ولكننا ضد إقحام أيِّ آخر لكسب مواقع ومزايا على حساب الحكومة، فالتشاركية في التوظيف وكذلك في محو الأمية والتصدي لأمراض الأزمة الثقافية والاجتماعية والرياضية والفنية، ولكن ما حصل أن أغلب النقابات والمؤسسات خففت من المزايا التي كانت تقدمها، وأغلب الجمعيات التي أنشئت انحرفت عن المسار اللازم، وكانت إما للكسب أو للتبيض أو لملء الفراغ ورغم الضغوط المشبوهة دولياً لفرض مجتمع مدني وخاصة نسائي علماً أن نساء بلدنا سباقات لأغلب الدول في التحرر المنضبط والفعال وما يراد لا يبغي بناء وإنما تشويه وتقزيم، وقد كانت هذه الجمعيات غالباً ديكورات لاختراقات أو تلميع وجوه، ولكن التعويض يكون ببديل محلي هادف بناء. إن إمكانات الحكومة غير كافية للتصدي لما هو قابل لاتساعه أفقياً وعامودياً، وبالتالي الحاجة ضرورية للمشاركة وللتشاركية، المشاركة بتخصيص الفعاليات الاقتصادية وحتى المنظمات والنقابات جزء من مداخيلها أو أرباحها لنشاطات كهذه تكون الحكومة قد وضعت الخطط المتكاملة للتصدي لها من حيث الحجم والنوع والجغرافيا والمتطلبات، وبحيث لا تكون هذه المخصصات طرقاً للربح أو للهروب من الضرائب وإنما واجب وطني على الجميع التصدي له.

إن التشاركية المنشودة قد تكون بتسخير الحكومة للأدوات أو المكان أو للكوادر لصالح فرق تطوعية أو لجمعيات أهلية ومجتمع مدني منضبط محلياً أو قد يكون لقاء تسهيلات ومزايا للقطاع الخاص بحيث تكون مجانية أو بأسعار رمزية أو يكون عبر زيادة المنظمات للخدمات الاجتماعية. إن الآثار السلبية الاجتماعية تفرض على الحكومة زيادة المعونات الاجتماعية وزيادة الأموال المخصصة من الموازنة وحتى المشاركة بالتعليم والصحة لم تكن وفق شروط الجودة أو حاجة المجتمع، وغالباً كانت بالإساءة للخدمات التي كانت تقوم بها الحكومة والتقليل من جودتها، ولم تكن بما يتناسب مع الأزمة أو بما يليق بشهدائنا وجرحانا وتضحيات إخوتنا وحتى المشاركة بالتأمين الصحي لم تكن منضبطة ولا كانت بالجودة المطلوبة، بل كانت أقرب إلى الابتزاز وكذلك التشاركية بالتأمين الصحي والاشتراك بالتأمينات الاجتماعية لم تكن وفق حقوق العمال . إن القادم بحاجة إلى تجميع الجهود وخاصة عند الوصول إلى الحل السياسي، فالكثير من الشبان الأبطال سيعودون كطاقات بحاجة إلى عمل يليق بهم لبناء مستقبلهم، وهذا يقتضي تشاركية بتأهيلهم وتدريبهم بما يناسب المتطلبات التنموية ،وكذلك تكريم الجرحى والمعاقين بعمل يناسب ما قدموه بدلاً من البطالة أو اللجوء لأعمال لا تليق ببطولاتهم، إن النظرة إلى التشاركية الاجتماعية وهي واجب وطني لوطن مأزوم، الولوج بها سيكون استثماراً مستقبلياً وزيادة للأمن والأمان لم تلق الوتيرة نفسها والضغط و اللعب الذي مورس للتشاركية الاقتصادية ،كانت أقرب إلى خصخصة مبطنة. إن البلد بحاجة إلى وعي وطني كبير يستوعب الوضع ويقدر الأهوال والصعوبات ويرتقي لمستوى وطن صامد صابر وشعب مناضل جبار يريد العودة القوية، ومن لا ينطلق من بناء الإنسان لن يصل.

جميل الاعتراف بالخطأ ولكنه يصبح قبحاً إن لم يقترن بإصلاحه.

العدد 1107 - 22/5/2024