تقارب واعد بين روسيا وباكستان

 منذ نهاية القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، بدأت النخب في كل من موسكو وإسلام أباد تتحسس أهمية كل واحدة منهما للأخرى، فجرى تبادل زيارات شبه سرية بين الطرفين، بمعرفة ومشاركة جهازي المخابرات المركزية للبلدين، في محاولة لتفهم أفضل لسنوات عقود الجفاء الخمسة بين البلدين، ومن ثم تحديد المصالح المشتركة بينهما، ليجري البناء عليها، في محاولة جادة من الطرفين لتعزيز العلاقات فيما بينهما، والتعاون في مختلف المجالات على قاعدة المصالح المشتركة والتعاون في محاربة الإرهاب.

إضافة إلى المصالح المشتركة ومحاربة الإرهاب، هناك ما هو أبعد وأهم من ذلك بكثير، وهو أن طواقم البحرية الحربية الروسية توجد في ميناء كراتشي الباكستاني المطل على المياه الدافئة لبحر العرب لأول مرة بعد جفاء قارب خمسة عقود تقريباً، للمشاركة في مناورات عسكرية لمدة خمسة أيام ابتداء من 10 شباط 2017.

كسر الجليد والذهاب إلى تعاون مفتوح فيما بينهم لإحلال السلم والأمن في إقليم لم يشهد استقراراً قط منذ زمان طويل.

على مدى خمسة عقود خلت، جرت أحداث ومتغيرات أرغمت كلا البلدين على السير ضد مصالح الآخر، بدءاً من حرب عام 1971 بين باكستان والهند، التي أدت إلى انفصال باكستان الشرقية (بنغلادش) عن باكستان الغربية، ثم التدخل السوفييتي في أفغانستان لمساندة الثورة فيها، والاحتلال الأمريكي لأفغانستان لاحقاً تحت مسمى (مكافحة الإرهاب)، الأمر الذي جعل إسلام أباد تحت رحمة عوامل خارجية في تحديد سياساتها الخارجية، وانعكس ذلك على الموقف الباكستاني من موسكو.. هذا في الماضي، أما في هذه الأيام، فقد ساهمت عوامل في إذابة الجليد بين البلدين، منها:

* أهمية وجود نظام عالمي متعدد الأقطاب للحفاظ على الأمن والسلام الدوليين والإقليميين.

* عدم جدوى الوجود الأمريكي وقوات حلف الأطلسي في أفغانستان.

* جدية روسيا الاتحادية في محاربة الإرهاب، وخير مثال على ذلك دعمها لسورية في هذا المجال.

* سعي الطرفين جدياً إلى إحلال السلام في أفغانستان.

ويرى خبراء باكستانيون أن الاستعمار الغربي ممثلاً بالإمبراطورية البريطانية سابقاً والولايات المتحدة حالياً، عملتا دائماً وبجد لإيجاد دولة عازلة هي أفغانستان، عبر تحويلها إلى بلد مأزوم وغير مستقر لمنع وصول روسيا إلى ميناء كراتشي، وقد كُتب الكثير حول ذلك مما تضيق ببيانه هذه العجالة من البحث، بمعنى أن تظل أفغانستان تحت إدارة واشنطن وسيطرتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إبعاد باكستان عن روسيا.

لكن الأمور بدأت تتغير منذ بداية التسعينيات، عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على إسلام أباد، بذريعة التجارب النووية التي قامت بها باكستان لأغراض الردع والحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي في جنوب آسيا. هذا إضافة إلى أن التجربة الطويلة لإسلام أباد مع واشنطن أثبتت ازدواجية الولايات المتحدة في التعامل معها ومع غيرها من الدول، لاسيما في الأعوام الثلاثة الأخيرة، عندما تركت واشنطن باكستان وحيدة في حربها ضد الإرهاب، وقطعها عن إسلام أباد الميزانية السنوية للحرب على الإرهاب. وبالطبع أيقنت باكستان بعد تجاربها مع واشنطن بأنه لا يمكن لدولة طامحة إلى النهوض والتقدم، الاتكال والمراهنة على حليف أو صديق ازدواجي المزاج والسياسة، ينظر إلى باكستان بعين مصالحه في أفغانستان فقط.

لهذا كله ستكون باكستان حريصة أشد الحرص على زرع بذور شراكة استراتيجية ثنائية عميقة مع روسيا الاتحادية على غرار شراكتها مع الصين، من أجل الحصول على مزيد من الاستقلال الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري عن النفوذ الامريكي لمصلحة الأمن القومي الباكستاني.

من جهة أخرى تدرك موسكو أن باكستان تبقى اللاعب الأكبر والأبرز في أفغانستان الذي يمتلك في يده مفتاح القلعة- كما يقال.. وقد ساهمت باكستان أيضاً في إنجاح الاجتماع الثلاثي الذي عقد في موسكو أواخر كانون الأول عام 2016 لبحث عملية السلام الأفغانية بمشاركة الصين، من خلال رأب الخلافات بين حركة طالبان وبكين وموسكو، وهذا التعاون مهم جداً، ويعتبر قفزة في العلاقات الدبلوماسية والتعاون بين باكستان وروسيا.

باختصار، يتوقع الكثير من المراقبين السياسيين في العالم غرباً وشرقاً، قيام محور جيوسياسي بين باكستان وروسيا والصين، وما يعزز هذا التوقع إبداء روسيا الاتحادية رغبتها بالانضمام إلى مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي لاقى ترحيباً من إسلام أباد، ويمكن للبلدين الاتكاء على رغبة كل منهما في الحفاظ على المصالح المشتركة في الاستقرار الإقليمي، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب كركيزتين أساسيتين للشراكة المأمولة بين البلدين.

وتعقيباً على ذلك، يمكن القول إن الكثير من دول العالم عانت الأمرّين من تعامل واشنطن معها، القائم على المصلحة الأمريكية قبل كل شيء على حساب الآخرين، وهذا ما يدفع هذه الدول إلى التفتيش عن علاقات مع دول أخرى على أساس الندية والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل.

العدد 1107 - 22/5/2024