التطورات الاقتصادية والاجتماعية في ظل الأزمة (3)

محاضرة للرفيق فؤاد اللحام التطورات الاقتصادية والاجتماعية في ظل الأزمة (3)

14- نالت المرأة السورية ضحية نتيجة الأزمة النصيب الأكبر من مآسيها، ففقدت الابن والزوج والأخ والأب، وفقدت معهم العمل وحرية التعبير، وعانت من التهجير المتنوع الأسباب ( دينياً وطائفياً وعرقياً) إضافة إلى الاغتصاب والسبي والعودة إلى التقاليد والممارسات البالية التي كانت سائدة منذ آلاف السنين. كما اضطرت المرأة السورية في ظل غياب المعيل إلى دخول سوق العمل الممكن، وبضمنه العمل في المنازل لإعالة أفراد اسرتها. كذلك لم تنجُ المرأة السورية النازحة إلى البلدان المجاورة من كل هذه الأمور، بل واجهت ما هو أسوأ منها، وهو ما يتمثل بزواج الإكراه أو ( السترة) الذي هو أشبه بشراء الجواري لمتعة الرجال من كبار السن الذين استغلوا حالة النزوح والفقر والجوع للزواج من الفتيات السوريات القاصرات دون ضوابط قانونية واجتماعية تحفظ حقوقها وحقوق أبنائها الذين لا يمكن تسجيلهم رسمياً بسبب عدم تسجيل زواجها بشكل رسمي وهروب الزوج.

ويشير أحد التقارير إلى أن المرأة السورية هي الأكثر تضرراً من الأزمة، للأسباب التي سبق ذكرها خاصة في مخيمات النزوح وخارجها فضلاً عن الوفيات بسبب قلة إمكانية الوصول إلى الرعاية الطبية الضرورية، وتشير التقارير إلى تأثر أربعة ملايين سيدة وفتاة تقريباً بالنزاع في سورية.

15- ارتفاع عدد الضحايا والجرحى والمعاقين، ووصول إجمالي عدد المهجرين والنازحين في الداخل، حسب أحد التقارير، الى 31% من السكان اضافة إلى حوالي 4 مليون نسمة من اللاجئين والمهجرين خارج البلاد. كما تسببت الأزمة حسب أحد التقارير بصور مباشرة وغير مباشرة بوفاة حوالي 1,9% من اجمالي السكان. وتراجعت توقعات الحياة لجميع الفئات العمرية تراجعا كبيرا وخاصة الذكور من الفئات العمرية الشابة. اذ تراجع توقع الحياة لدى الذكور عند الولادة من 69,7 سنة عام 2010 إلى 48,4 عام 2015 وكان تراجع توقع الحياة أقل حدة لدى الاناث نتيجة عدم الانخراط المباشر في الأعمال القتالية، اذ تراجع توقع الحياة عند الولادة من 72 سنة عام 2010 إلى 65 عام 2015.

16- حرمان نسبة كبيرة من أطفال سورية من الالتحاق بالمدارس ( حوالي مليونين)، فقد جرى تدمير حوالي 4382 مدرسة، واستخدام حوالي 510 مدارس منها مراكز إيواء للمهجّرين، كما انخفضت نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي من 98,4% عام 2011 إلى 70% عام 2015 ولم يسلم الأطفال من آثار الأزمة نتيجة فقدان الأهل أو التشرد أو النزوح أو الفقر بل فقدوا أيضا فرص التعليم حيث وصلت نسبة الأطفال غير الملتحقين بالتعليم الأساسي من إجمالي عدد الاطفال في هذه الفئة العمرية إلى 50,8% خلال العام الدراسي 2015 -،2016 أي أن نصف الأطفال تقريباً باتوا لايحصلون على التعليم النظامي.

ولابدّ من الإشارة إلى أن انخفاض نسبة الالتحاق بالمدارس قد أدّى إلى انتشار ظاهرة تسول وعمالة الأطفال الذين أُجبروا على ذلك من أجل تأمين مورد رزق لأسرهم التي اضطرت للنزوح أو باتت دون دخل كافٍ للحد الأدنى من المعيشة، حيث تشير التقديرات الحالية إلى أن نسبة عمالة الأطفال تضاعفت في الأزمة من 10 إلى 20 بالمئة. يضاف إلى ذلك اضطراب الدراسة في العديد من الجامعات والمدارس العامة والخاصة ونقص المدرسين، ماأدّى إلى ضياع فرص التعليم وتشتّته واضطرابه بالنسبة للعديد من الأطفال والشباب، وبخاصة في مخيمات اللجوء خارج البلاد، وفي مناطق سيطرة الجماعات التكفيرية المسلحة، التي تزرع أفكارها السامة وممارساتها التكفيرية في أذهان الأطفال والشباب بما يدمر حياتهم وتعايشهم مع باقي السكان ومخاطر انعكاس ذلك على وحدة الوطن وتماسكه.

17- تراجع معدّلات تحصين الأطفال ضد الأمراض بواسطة اللقاحات من حوالي 100% في جميع المحافظات قبل الأزمة إلى نسبة تتراوح بين 50% و70% بحسب المحافظات، ووصولها إلى الصفر في بعض المناطق على الرغم من حملات التلقيح العديدة التي تقوم بها وزارة الصحة بالتعاون مع المنظمات الدولية المختصة. فيما تشير بعض التقارير إلى أن معدّل وفيات الأمهات وصل إلى 62,7 حالة لكل 100 ألف ولادة عام ،2013 نتيجة تضرّر البنى التحتية الصحية، وعودة أمراض كان السوريون قد نسوها، وتفاقم أمراض كانت معدلات انتشارها منخفضة.

18- تدهور الوضع البيئي في معظم المناطق السورية (تلوث التربة والماء والهواء) نتيجة الأعمال العسكرية من ناحية والتعدّي على الأشجار وقطعها، سواء لاستخدامها للتدفئة والوقود أو قطعها واحتراقها بسبب الأعمال العسكرية، إضافة إلى اتباع الأساليب البدائية في تكرير النفط في عدد من المحافظات والمناطق الشمالية الشرقية، ولاشك في أن تلوّث التربة الزراعية في هذه المناطق التي تشكل مصدراً هاماً للمنتجات الزراعية والحيوانية في سورية سيؤثر على مختلف الجوانب الصحية والغذائية للسوريين حالياً ومستقبلاً.

19- تدمير المعالم الحضارية والأثرية في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات التكفيرية، وسرقة الآثار الموجودة في هذه المعالم وتهريبها وبيعها لتمويل أعمال هذه الجماعات الإرهابية.

ثالثاً ــ الإجراءات والتدابير الحكومية لمواجهة الأزمة

اتخذت الحكومات المتعاقبة منذ بداية الأزمة وحتى الآن عدداً من الإجراءات والتدابير للتخفيف من آثار الأزمة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إذ ركّزت على استمرار دفع الرواتب وتوفير النفط ومشتقاته والمواد الغذائية الضرورية كالقمح والطحين والسكر والأرز وكذلك الأدوية…كما خفّضت الرسوم الجمركية على عدد من المواد الغذائية وعلى المواد المستوردة من إيران، وقامت بتسعير عدد من المواد مركزياً. وأعادت جدولة ديون المقترضين من المصارف العامة ومساهماتهم المتأخرة في التأمينات الاجتماعية، وعملت على توفير عدد من المواقع البديلة الآمنة للمنشآت الصناعية التي دمّرت والتعويض عليها اضافة إلى عدد من الاجراءات الأخرى فيما يتعلق بحماية الصناعة الوطنية وتسهيلات الاستيراد والتصدير….

إلا ان هذه الحكومات لم تستطع، رغم ما بذلته من جهد، مواجهة الأزمة ونتائجها بالشكل المطلوب. كما أنها لم تبد أيضاً كفاءة واضحة في معالجة آثار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. فمما لاشك فيه أن البلاد تواجه وضعاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق نتيجة الحصار والمقاطعة وسيطرة الجماعات المسلحة على أجزاء هامة من البلاد، ما أدّى إلى تراجع الإيرادات الحكومية وازدياد حجم الإنفاق لتغطية العمليات العسكرية وتوفير المواد والخدمات الأساسية ومواجهة أعباء التدمير والتخريب للمرافق العامة واستيعاب المهجرين. وإذا كنا جميعاً نقرّ بهذه الظروف الصعبة والاستثنائية التي تواجهها البلاد، منذ نشوب الأزمة حتى الآن، إلا أننا نرى بالمقابل أن الجهود المبذولة من أجل معالجة هذه الظروف لم تكن بالمستوى الاستثنائي المطلوب لأن الكثير من هذه الإجراءات وغيرها، جاءت في كثير من الأحيان مجتزأة ومتأخرة وبطيئة التنفيذ وتعتمد سياسة العمل وإطفاء الحرائق يوماً بيوم دون التطرق إلى سياسات وإجراءات متكاملة تستند إلى رؤية واقعية وتوقعات مستقبلية لاحتمالات تطور الأحداث واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لمنعها أو الحد من تأثيرها عند حدوثها، وخاصة في مجال السياسات المالية والنقدية والتجارة الخارجية والداخلية. وهذا يعود بشكل رئيسي إلى ضعف الخبرات العملية لغالبية المسؤولين المكلفين بهذه الأمور، وعدم تشكيل فريق أزمة منذ البداية على المستوى المطلوب من الخبرة والكفاءة والنزاهة ومنحه الصلاحية اللازمة لتنفيذ ما يجب تنفيذه.

وأكبر دليل على ذلك معالجة مواضيع الغلاء والاحتكار والفساد وتمويل الصادرات وأسعار القطع الأجنبي ومعدلات الفائدة، وإصدار موازنات شكلية بأرقام كبيرة لم يبرزفيها إجراءات واضحة للتعامل مع الأزمة، ووقف العديد من المشاريع الاستثمارية في الجهات الحكومية والقطاع العام، وانفلات الأسعار الجنوني والأزمات المتجددة والمتنقلة من سلعة إلى سلعة بين الحين والآخر. إضافة إلى زيادة نسبة البطالة والفقر بكلّ أشكاله، وفوق ذلك عدم التعامل بشفافية ووضوح في العديد من الإجراءات والتدابير والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، وانتشار تجار الحروب والأزمات واتساع نفوذهم وتأثيرهم. كما ساهم الاستقراء الخاطىء بحل عسكري سريع للتغلب على الأزمة في إهمال العديد من الإجراءات اللازمة وتأجيلها، ما أدّى إلى زيادة الآثار السلبية للإجراءات الحكومية المتخذة.

إلا أن أهم ملاحظة يمكن توجهيها إلى كافة الحكومات التي توالت خلال سنوات الأزمة هي متابعة النهج الليبرالي الجديد الذي كان سائداً قبل الأزمة وكان واحداً من أسبابها. فعلى الرغم من الإعلان اللفظي هنا وهناك ( دون عمل فعلي وجاد) عن أهمية القطاع العام ودوره الهام في تماسك مؤسسات الدولة وتلبية حاجة المواطنين، تمت متابعة النهج الليبرالي تحت شعار (إيصال الدعم لمستحقيه)، و(تراجع موارد الدولة والعجز الكبير في ميزانيتها) حيث تم رفع أسعار العديد من السلع والخدمات الحكومية المدعومة بدءاً من الخبز مروراً بالمازوت والبنزين والغاز والكهرباء والهاتف والماء والدواء وصولاً إلى التعليم والصحة والاتصالات…. كما جرى فرض ضرائب ورسوم جديدة بمسمّيات مختلفة ورفع نسبة الموجود منها، ولم تميّزعملية رفع أسعارهذه السلع والخدمات بين مستحق للدعم من العمال والفلاحين وصغار الكسبة والموظفين،وغير مستحق للدعم من ذوي الدخل غير المحدود الذين يستطيعون عكس كل هذا الغلاء على أسعار بضائعهم وخدماتهم، بل طبّقت على الجميع دون استثناء كما تم وقف العمل بالبطاقة التموينية. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه الأسعار ما بين 8 إلى 12 ضعفاً عما كانت عليه قبل الأزمة، فإن رواتب العاملين في الدولة والمتقاعدين منهم لم تزدد، تحت كافة المسميات بأكثرمن 150% خلال السنوات الست من عمر الأزمة، والتي لم يحصل عليها سوى جزء من المواطنين.وأمام ارتفاع نسبة البطالة والفقر وتراجع القدرة الشرائية للدخول تطرح التساؤلات التالية على الجهات الحكومية المعنية: من أين يستطيع المواطن العادي تأمين احتياجاته الضرورية ؟ وإلى متى يمكنه أن يصبر اذا لم يكن لديه مدخرات أو بعد استهلاكه هذه المدخرات ولم يكن أحد من أفراد اسرته يعمل في الخارج ويحوّل له بعض ما يكفيه؟ اننا بانتظار الجواب الذي نأمل ألا يكون كما العادة المزيد من الغلاء….

لقد قامت الحكومات المتعاقبة منذ نشوء الأزمة باتخاذ إجراءات وتدابير انفتاحية لم يكن الفريق الاقتصادي قبل الأزمة يحلم أو يستطيع تحقيق جزء يسير منها. فقد شهدت فترة الأزمة وما تزال تشهد جولات نوعية في الانفتاح غير المدروس، فجرى إقرار قانون التشاركية الذي تحفّظ عليه حزبنا، وجرى تلزيم تطوير معمل أسمنت عدرا لمستثمر واحد وبشكل مباشر ( مع المستثمر نفسه الذي توقف عن تطوير معمل أسمنت طرطوس، وتم إرضاؤه فيما بعد لمتابعة عمله) حتى دون استدراج عروض يمكن أن تحسّن من شروط هذا الاتفاق أو التعاقد. كذلك تمت معالجة موضوع بيع خردة الحديد ونقل القطن والحبوب وتشغيل معامل الغزل والزجاج المحجر وغيرها بالأسلوب ذاته، والحبل على الجرار… بدءاً من إعادة الإعمار في الأحياء والمدن المنكوبة وصولاً إلى تأمين واستيراد المواد الغذائية الأساسية وغيرها… إن اتباع مثل هذا النهج يثير مخاوف جدية حول التعامل مع القضايا الاقتصادية والخدمية في هذه الفترة وفي مرحلة إعادة الإعمار التي يُخشى أن تنفّذ على غرار التجربة اللبنانية في هذا المجال، سواء باحتكارها من قبل جهات أو شخصيات محددة أو بارتفاع مديونية الدولة أو زيادة العجز في موازنتها وسوء تنفيذ مشاريعها واستمرار الفقر والبطالة، الأمر الذي يهيّىء البيئة المناسبة لفساد هائل قادم لا يشكّل الفساد الحالي سوى جزء يسير منه، فالكعكة هنا أكبر بكثير، والقوى والشخصيات الداخلية والخارجية الطامحة عديدة ومتنوعة وذات أفواه وبطون كبيرة لا تمثّل المزايا والمكاسب السابقة قبل الأزمة شيئاً يذكر بالنسبة لها، والأخطر من كل ذلك أن اتباع هذا الأسلوب غير الشفاف في معالجة القضايا واتخاذ القرارات أو تفصيلها لصالح شخصيات محددة مسبقاً ( ان تم ولا نرجو ذلك) يعني بوضوح عدم استيعاب الدروس السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستخلصة من الأزمة وعدم فهمها والاستفادة منها بالشكل المطلوب، ما يجعلنا نحذّر مجدداً من أن اتباع مثل هذه الإجراءات والسياسات من شأنه أن يزرع بذور أزمة جديدة، وهو ما يجب الانتباه إليه منذ الآن وتجنّب الوقوع في مستنقعه.

إن طول فترة الأزمة وآثارها الكارثية لم تنجُ منها أية أسرة سورية، سواء بفقدان أحد أفرادها أو تشرّدها ونزوحها وخسارة مأواها ومصدر رزقها وتدنّي مستوى معيشتها، أو تشتّت أفرادها في مختلف أصقاع الأرض. ورغم ذلك فقد أدّت هذه الأزمة أيضاً إلى بروز إرادة قوية لدى قسم هام من السوريين في التمسك بالوطن والأرض والتكافل الاجتماعي والعمل الخيري والتطوعي مع الصبرعلى المعاناة والحرمان في العديد من المجالات المعيشية والخدمية، وفي مقدمتها الماء والكهرباء وغيرها، وكذلك استقبال المهجّرين والنازحين من المدن والمناطق غير الآمنة في المدن الآمنة رغم اختلاف الدين أو المذهب أو العرق، وقد ترافق ذلك بالعمل على التكيف مع ظروف الأزمة قدر المستطاع سواء في المجال الزراعي أو الصناعي الصغير والحرفي.

فقد جرت تجزئة المعامل ومعاودة الإنتاج ولو بطاقات بسيطة من خلال البيوت والمخازن داخل الأحياء والمناطق الآمنة، لسدّ حاجة المواطنين من هذه المنتجات، وبما يساعد على دوران عجلة الإنتاج وتحريك السوق وتلبية جزء من الطلب الداخلي شيئاً فشيئاً،على الرغم من أن عمليات زراعة الأراضي وجني المحاصيل من القمح والقطن والفواكه والخضار وغيرها، ونقلها، وكذلك نقل الإنتاج الصناعي ومستلزماته وتصديره ما تزال تصطدم بصعوبات ارتفاع تكاليف النقل ومستلزمات الانتاج والنفقات والأتاوات التي يضطر الفلاحون والمنتجون لدفعها من أجل الوصول إلى مواقع إنتاجهم ونقله. وقد باتت معروفة ممارسات عدد من الحواجز الأمنية في مناطق عديدة في المدن والأرياف في مختلف أرجاء سورية في هذا المجال، ودورها الكبير في رفع كلفة هذه المنتجات وأسعارها. كما أن التأخر والتعقيد غير المبرر، في منح الترخيص الاداري المؤقت وصرف جزء معقول من التعويضات للصناعيين المتضررين لإعادة تشغيل معاملهم وتخفيف حدة البطالة وتوفير المنتجات الصناعية الوطنية في الأسواق، يزيد من الآثار والنتائج السلبية لهذه الأزمة ويؤثر في سرعة وكفاءة الخروج منها.

 

العدد 1107 - 22/5/2024