هل يخدم ترامب من حيث لايدري شعوب العالم التي تتصدى للعدوانية الأمريكية؟

 من الأمثال الشعبية مثل يقول: (المفلس يعود إلى دفاتره القديمة لعله يجد فيها ما يخرجه من أزمة إفلاسه)! هذا الأمر ينطبق تماماً على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وآخرها وليس أخيرها إدارة دونالد ترامب المرتبكة ومواقف الأخير المتذبذبة، بسبب  استيائه وربما إحباطه من نجاح الاتحاد الروسي في الذهاب باتجاه إيجاد تسوية سياسية للأزمة السورية، في إطار التعاطي الروسي الدبلوماسي الحازم والعقلاني الهادئ مع القضايا الدولية، وخاصة مع المسألة السورية التي ترغب واشنطن أن تدس أنفها فيها بغير وجه حق، من خلال إطلاق مزاعم وفبركات وسيناريوهات مكشوفة ومفضوحة بغية عرقلة التسوية السياسية للملف السوري، وخاصة بعد ما شكله ابتعاد واشنطن عن المشاركة في محادثات جنيف وأستانا من مؤشرات واضحة على أن الادارة الأمريكية التي لا ترغب أصلاً في نجاح المسار السياسي باتت تتأرجح في مواقفها بين الانفعالية الطفولية الاستفزازية الحادة، والعودة عن تلك المواقف والالتفاف عليها.

ولاشك في أن ادارة باراك أوباما التي فبركت أزمة السلاح الكيميائي في عام 2013 بغية شن عدوان على سورية حالت موسكو في حينه دون وقوعه، قد أوحت لإدارة ترامب بممارسة تلك الفبركة مجدداً للاعتماد عليها في شن العدوان الغاشم على مطار الشعيرات، بيد أن موسكو التي منعت وقوع العدوان في عام ،2013 بدبلوماسيتها المتقدمة شكلاً ومضموناً على مختلف أشكال الدبلوماسيات الدولية عموماً والغربية على وجه الخصوص، موسكو نفسها نجحت الآن، بعد العدوان الأمريكي على مطار الشعيرات، في تنفيس الاحتقان الأمريكي بالدعوة مجدداً إلى إجراء تحقيق دولي نزيه للكشف عن ملابسات استخدام الكيميائي في مدينة خان شيخون، بالتوازي مع كشف وزارة الدفاع الروسية عن وجود مخازن أسلحة في خان شيخون تحتوي أسلحة كيميائية، فضلاً عن إعلان سورية على لسان وزير الخارجية وليد المعلم أن دمشق سبق أن أرسلت أكثر من مئة برقية إلى مجلس الأمن ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية تتضمن معلومات عن إدخال مواد كيميائية من العراق إلى تنظيمي داعش وجبهة النصرة ومن الحدود التركية باتجاه إدلب، مع الأخذ بالاعتبار حقيقة أن القوات المسلحة السورية التي لم يسبق لها أن استخدمت في محاربة الإرهاب السلاح الكيميائي (الذي لم يعد أصلاً موجوداً لديها)، لن تستخدمه في محاربة هذا الإرهاب، لأنها ليست بحاجة ميدانية لاستخدامه، في ضوء تقدم القوات البرية في تلك المناطق التي زعمت واشنطن أنها تعرضت للقصف بالكيميائي، ومع الأخذ بالاعتبار أيضاً أن إدارة ترامب المرتبكة والحائرة في اختيار الأسلوب الكفيل بخدمة سياستها العامة والسير به، رأت أن من شأن العدوان على مطار الشعيرات أن يرفع وتائر التصعيد الميداني الذي يكفل ضرب أية تسوية سياسية يمكن التوصل إليها بفضل الجهود الروسية، ما يعني الحيلولة دون مواصلة عقد اجتماعات جديدة سواء في جنيف أو في أستانا، ما يريح تنظيمي داعش والنصرة، ويعطيهما دفعاً إضافياً لممارسة المزيد من الارهاب.

ثمة عملية شد حبال بين واشنطن وموسكو، ففي حين تواصل الأولى إطلاق تصريحات من شأنها خلط الأوراق بغية الذهاب نحو التصعيد، تعمل الثانية على ضبط موجة هذا التصعيد الأميركي واحتوائها دبلوماسياً، مؤكدة في الوقت ذاته رفضها الرضوخ للضغوط الغربية عموماً والأمريكية بشكل خاص، إذ ترى الخارجية الروسية (أن التوتر الروسي – الأمريكي وصل إلى أعلى مستوياته منذ الحرب الباردة)، وهي رؤية قابلها وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون بوصف العلاقات الروسية الأميركية بأنها باتت في (مستوىً متدنٍّ جداً).

في ضوء هذا الواقع الراهن يبدو واضحاً أن حالة جديدة من الصراع على سورية افتعلتها الإدارة الأمريكية الحالية من أبرز أهدافها تمكين التنظيمات الإرهابية من تثبيت وجودها في المناطق السورية الغنية بالنفط والغاز، قد تخلق رد فعل عملياً محتملاً ومدروساً بدقة متناهية من قبل روسيا وسورية وإيران وكامل محور المقاومة، من شأنه إسقاط مختلف الأهداف المتلطية خلف المزاعم والفبركات والسيناريوهات (الأمريكية الغربية الإسرائيلية الخليجية المكشوفة والمفضوحة).

ويبدو مفيداً القول إن العدوان الأمريكي على مطار الشعيرات يؤكد استمرار الإدارات الأمريكية في ممارسة سياستها العدوانية العامة تجاه الدول الأخرى، وبطلان مزاعمها المستمرة حول محاربة الإرهاب الذي تتحمل وزر صناعته ومن ثم مشاركته، ما يعني من حيث النتائج أن السياسة الأمريكية تجاه دول العالم تجعل من النظام الأمريكي بمقوماته العدوانية المستمدة من المؤسسة الصناعية الحربية والمدنية والنفطية، ومن البنتاغون الأمريكي والاستخبارات المركزية الأمريكية، المعبر الحقيقي عن أهداف تلك المؤسسات المستند إليها النظام الأمريكي والناطق باسمها والمؤتمِر بأوامرها.

هنا يتساءل بعض الإعلام الأمريكي قائلاً: (لا نعرف فعلياً لماذا غيّر ترامب رأيه فجأة؟ من غيّر رأيه؟ ما السياسة التي سيعتمدها في المستقبل؟ بتنا لا نعرف مطلقاً إذا أو متى يمكننا أخذ كلام رئيسنا على محمل الجد، كذلك فإننا لسنا واثقين من أن سياسة ترامب الخارجية اليوم ستشبه سياسته غداً)، ما يعني أن المواقف الملتبسة لهذا الرئيس الملتبس ماضية في المزيد من الذبذبة والتأرجح والتناقض، وذاهبة نحو تحويل الأنظار مرة بهذا الاتجاه وتارة بذاك الاتجاه، بما يخدم في النهاية المشروع الإمبريالي الأمريكي الذي باتت فرص نجاحه شبه معدومة، بسبب التغير الكبير في موازين القوى الدولية، وولادة تحالفات وتفاهمات وتجمعات دولية من مختلف القارات، تضع حداً للتفرد الأمريكي في معالجة القضايا الدولية انطلاقاً من الاستراتيجية الأمريكية القائمة أساساً على القوة المفرطة التي لم تعد الوحيدة في الساحة الدولية، وخاصة بعد أن تمكن الاتحاد الروسي من كسرِ معادلة عدم توازن القوة، ووضعِ حدٍّ لهيمنة القطب الأحادي على القرار الدولي وإسقاط التفرد الأمريكي في اللعب بالساحة الدولية وفق مصالح الرأسمالية الأمريكية المتوحشة.

العدد 1104 - 24/4/2024