دور الشراكة السورية ــ الروسية ــ الإيرانية في استقرار الشرق الأوسط

 أحدث انهيار الاتحاد السوفيتي زلزالاً كبيراً في العالم كله، كان العرب بنتيجته أكبر الخاسرين، فلقد تدهورت مكانة الدول العربية وتراجعت أهمية قضاياها وضعف تأثيرها في مجمل المتغيرات الدولية. وعلى الرغم من انطلاق مفاوضات السلام بين الدول العربية والكيان الإسرائيلي بعد مؤتمر مدريد للسلام ،1991 إلا أن التفرد الأمريكي بالحل جعل مفاوضات السلام هذه مجرد مضيعة للوقت. وسرعان ما أدركت دول العالم أن غياب الاتحاد السوفيتي أدى إلى الدخول في عصرٍ من الغطرسة الأمريكية، وفي هذا الإطار كانت الحملة الأمريكية على العراق وكوسوفو وأفغانستان، والحرب الشيشانية…الخ. كانت ازدواجية المعايير والتلاعب بالقوانين والمواثيق الدولية وبقرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية من أهم ميزات السياسة الأمريكية في هذه المرحلة، الأمر الذي أدّى إلى خلق العديد من بؤر التوتر في العالم وزيادة التوتر في البؤر المشتعلة أصلاً، وهذا ما أضحى يهدد الأمن القومي للعديد من الدول. وهكذا، بدأت الكثير من الدول تبحث عن شراكات وتحالفات إقليمية لمواجهة هذا التفرد الأمريكي بالقرار العالمي وحماية مصالحها الحيوية.

يعتبر الشرق الأوسط من أكثر مناطق العالم توتراً أمنياً، ونظراً للأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لهذه المنطقة فلا يزال عدم الاستقرار السمة الرئيسية له. من هنا تبرز الحاجة الكبيرة إلى تشكيل نوعٍ من التحالف أو الشراكة لمجابهة السياسة الأمريكية التخريبية، التي أدت إلى إدخال هذه المنطقة في حالة من الفوضى، كان آخرها هذه الحرب الظالمة على سورية، ولا أحد يستطيع التكهن بـ (موعد انتهاء) هذه التوترات! إن السياسات الحكيمة لكل من روسيا وإيران وسورية تجعل هذه الدول الثلاث في مقدمة الدول المرشّحة لتشكيل هذا النوع من التحالف السياسي. وهكذا، فإن التنسيق والتعاون بينها، كما سنرى، يشكّل عاملاً جيوستراتيجياً هاماً في استقرار المنطقة الممتدة من بحر قزوين والقفقاز حتى بلاد الشام والبحر المتوسط؛ فعلاوة على الأهمية الحيوية الكبيرة لهذه المنطقة، فإنه، من هذه المنطقة بالذات، تحاول الولايات المتحدة الأمريكية إطلاق خياراتها العدوانية لزعزعة استقرار الغرب الأوراسي بالكامل.

في الواقع، تجمع روسيا وسورية وإيران عوامل السياسة والجغرافيا والتاريخ والحضارة والماضي العريق. إذ يعود تاريخ العلاقات السياسية الجيدة بين سورية وروسيا إلى الحقبة السوفيتية، والتي أثمرت في العديد من المواقف والظروف منذ استقلال سورية ومروراً بحرب تشرين التحريرية والحرب الأهلية في لبنان وحتى الآن. كما لا يخفى على أحد، منذ قيام الثورة الإسلامية الإيرانية، الدور الكبير والفاعل الذي لعبته العلاقات السورية- الإيرانية في دعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين المحتلة، وهذا الدعم أدى إلى انكسار العدو الإسرائيلي واندحاره من جنوب لبنان في عام 2000 وإلى الانتصار التاريخي للمقاومة اللبنانية في عام 2006. كما تعود العلاقات بين طهران وموسكو إلى العهد الصفوي الإيراني عام 1500 ميلادي، وقلّما نجد دولاً في العالم مثل إيران وروسيا تعود علاقاتهما إلى خمسة قرون، ففي الثلاثين من كانون الثاني 2017 انعقد ملتقى 515 عاماً من العلاقات التاريخية الإيرانية- الروسية بإشراف عدة مؤسسات ومراكز سياسية وفكرية في البلدين، لتأكيد عمق هذه العلاقات. وقد شهدت هذه العلاقات طفرة نوعية بعد ازدياد حجم التبادل التجاري بين البلدين عام 2016 نحو 80 بالمائة عما كان عليه في عام 2015. وتكلّلت مباحثات الطرفين بالتوقيع على 14 وثيقة للتعاون بين كبار مسؤولي البلدين شملت مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والقضائية والحقوقية والعلمية والثقافية، أثناء زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى موسكو في أواخر شهر آذار من هذا العام.

في الحقيقة، ملفّات منطقة الشرق الأوسط عديدة ومعقدة ومتشابكة؛ تبدأ من اليمن مروراً بفلسطين وسورية والمسألة الكردية وصولاً إلى أوكرانيا، إضافةً إلى تنامي التيارات التكفيرية الإرهابية في المنطقة، وكذلك الملف النووي الإيراني. فكل من سورية وروسيا وإيران معنيٌّ بشكل مباشر أو غير مباشر بالتعامل مع هذه الملفات جميعها.

منذ بداية الأزمة السورية، كانت روسيا حريصة في التعاطي مع هذا الملف على احترام ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة مبدأ السيادة والسلامة الإقليمية للدول. واعتبرت موسكو مجلس الأمن الدولي والقانون الدولي الحصنَ المنيع للنظام العالمي، ولقد صرّحت غير مرة بأن طريقة حل الأزمة السورية سوف تحدد ماهية النظام العالمي الجديد. لذلك كانت موسكو تُصرُّ باستمرار على أن وظيفة مجلس الأمن هي معالجة المسائل المتعلقة بصون السلم والأمن الدوليين؛ وبالتالي، فإن عليه الامتناع عن دعم الأطراف المتقاتلة في الصراعات الداخلية. وهذه النقطة في غاية الأهمية، فالولايات المتحدة وحلفاؤها، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، لم تكتفِ بتجاوزها القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية واحترام سيادة الدول، بل إنها اتّخذت الأمم المتحدة منصّة لتبرير اعتداءاتها المستمرة على الدول الأخرى، وحروب كوسوفو وأفغانستان والعراق تشهد على ذلك. لذلك فإن الموقف الروسي سيكون له بالغ الأثر في تغيير التعاطي الدولي مع العديد من الملفات العالقة في العالم. وهكذا، فالمتابع لسلوك كلٍّ من روسيا وإيران، في الملف السوري، سواء على الصعيد السياسي أو العسكري، يرى أنهما جاءا متماهيان مع مسلمات القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. فحرصت إيران و روسيا على اقتراح حلول تحافظ على وحدة الأراضي السورية، وتؤكد أن الحل في سورية يجب أن يكون سياسياً، وأنه لا يحق لأحد النيابة عن الشعب السوري في تقرير مصيره أو اختيار قياداته السياسية. الأمر الذي أدّى في نهاية المطاف إلى وضع الأزمة على الطريق السليم نحو الحل النهائي.

لقد أدركت هذه الدول الثلاث، منذ عدة سنوات، خطورة انتشار الإرهاب التكفيري، نظراً لخبرتها الطويلة والقديمة في التعامل مع هذا النوع من التهديد، في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي في سورية وأفغانستان والشيشان، وفي مطلع هذه الألفية في العراق. وهكذا أدى التنسيق فيما بينها إلى إظهار خطورة الإرهاب على الأمن الوطني والإقليمي والدولي والاستقرار المجتمعي، كما نبّهت إلى أن شرارات هذا الإرهاب قد تصيب الدول التي تحاول دعم الجماعات التكفيرية للاستثمار السياسي في المنطقة، كالولايات المتحدة الأمريكية والسعودية وتركيا. علاوة على ذلك، قادت هذه الجهود المشتركة، الإعلامية والسياسية، إلى (تحطيم) هذا التضليل والاحتكار المفاهيمي، الذي تمارسه الولايات المتحدة في التعامل مع مفهوم الإرهاب منذ سنوات عدة، والذي يقوم أساساً على معايير مزدوجة لا تستند إلى أي منطق، إذ إنه وفقاً لمعاييرهم يصبح إرهابياً كل من يقف في وجه السياسة الأمريكية. ولقد جاءت التفجيرات الإرهابية التي حصلت في أوربا، تأكيداً لصوابية الرؤية السورية- الروسية-الإيرانية. كما أن الإنجازات التي حققها الجيش العربي السوري، بفضل الغطاء الجوي الروسي والخبرات العسكرية الإيرانية، والتي تتجلى باندحار الجماعات الإرهابية في الكثير من المناطق، تبين فعالية هذا التنسيق والتعاون في ملف الإرهاب الدولي. إضافة  إلى ذلك، برز للعالم أجمع النفاق الأمريكي في محاربة الإرهاب، من خلال التحالف الدولي المزعوم الذي شكلته، حتى أنه أصبح واضحاً للعديد من الصحفيين الغربيين أن الولايات المتحدة، ولسببٍ ما، لا تريد القضاء على داعش.

وبات واضحاً للقاصي والداني سعي الولايات المتحدة الأمريكية، لإقامة دولة كردية في شمال سورية والعراق، تحت مسمى (كردستان العظمى)، حتى أن بعض المصادر الصحفية أكدت أن أمريكا اتفقت مع الأكراد السوريين في شهر آذار الماضي على حدود الحكم الذاتي الكردي ضمن الأراضي السورية، وهذا يمثّل انتهاكاً واضحاً لميثاق الأمم المتحدة. طبعاً، إن السعي لتنفيذ مثل هذا المخطط الخبيث سيُدخِل المنطقة برمّتها في حالة من الصراع المستمر وعدم الاستقرار لعشرات السنين القادمة، وسوف يشكل هذا الكيان بؤرة جديدة للتوتر، تُسهِّل على الولايات المتحدة نهب خيرات هذه المنطقة الغنية بالنفط، وتمرير مخططاتها العدوانية تحت دخان المعارك الدائرة فيه، إضافة إلى تقويض جهود روسيا في إنشاء الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وتهديد الأمن القومي لجميع الدول المجاورة. ولقد أدركت روسيا وإيران وسورية العواقب الوخيمة وغير المتوقعة لهذه المخططات، والتي تعيد إلى الذاكرة الاستعمار الحديث للوطن العربي، والويلات التي ذاقتها الشعوب العربية من تجزئة الوطن العربي. لذلك جاء التأكيد السوري- الروسي- الإيراني المستمر أن الحل في سورية يجب أن يحافظ على وحدة الأراضي السورية. ولقد أصرّت موسكو دائماً في مباحثاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية على إشراك الأكراد في المحادثات حول الأزمة، بصفتهم أحد المكونات الاجتماعية الأساسية للشعب السوري. وهكذا فإن تنسيق الجهود بين هذه الدول الثلاث ودول الجوار السوري الأخرى سيكون له بالغ الأثر في منع تمرير هذا المخطط.

في موضوع الملف النووي الإيراني، توصلت إيران بعد مفاوضات طويلة وصعبة إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي مع مجموعة 5+1 في تموز ،2015 ولقد لعبت روسيا دوراً بارزاً في جميع مراحل التفاوض تلك. واتسمت المقاربة الروسية لهذا الملف بـ: المعارضة القاطعة لاستخدام القوة في حل المشكلة النووية الإيرانية، عدم تأييد فرض عقوبات أحادية أو متعددة الأطراف ضد إيران. وهكذا، فإن التنسيق والتعاون بين روسيا وإيران أدّى إلى حل هذا الملف بالطرق الدبلوماسية ووقى المنطقة المنهكة من الحروب والأزمات أصلاً من الدخول في أتون صراع جديد.

أما في الملف اليمني، فلقد وقفت سورية وروسيا وإيران ضد التحالف العربي الذي تقوده السعودية بهدف إبعاد الحوثيين من الموقف اليمني، وطالبت بالوقف الفوري لإطلاق النار، معتبرة التدخل تهديداً للأمن الإقليمي. وهكذا، وانطلاقاً من تجربة الشراكة بين طهران وموسكو في الحالة السورية، والتي كانت ناجحة للغاية وقادت إلى وضع الأزمة السورية على طريق الحل الصحيح، كذلك الأمر فإن نقل هذه التجربة إلى اليمن سيكون له دور كبير في التعجيل بحل أزمته.

 في الواقع، يوجد تقارب إيراني- روسي في هذا الملف، إذ إن روسيا تفرض حضور إيران في أي قرارات مصيرية في هذه المنطقة؛ كذلك الأمر، تسعى إيران إلى إحداث توازن دولي يؤدي إلى إدخال روسيا عبر مجلس الأمن الدولي في اليمن، وبالتالي إيقاف عدوان التحالف السعودي، الذي أدّى إلى آلاف الضحايا الأبرياء.

 إن الأحداث المتتابعة في المنطقة العربية، والممارسات العدوانية المستمرة للولايات المتحدة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط، والتي كان آخرها قصف مطار الشعيرات في سورية، بذريعة استخدام الجيش السوري للأسلحة الكيميائية في مدينة خان شيخون، دون احترام للدول المنضوية تحت قبة الأمم المتحدة، وقبل صدور نتائج التحقيق في هذه القضية، يؤكد من جديد ضرورة التكتل والتنسيق والتعاون لمواجهة هذه الغطرسة الأمريكية المستمرة. ولقد أصدرت قيادة غرفة العمليات المشتركة روسيا وإيران والقوات الرديفة في سورية بياناً يشجب العدوان الأمريكي الأخير على سورية، ويتوعدها بالرد الحازم في حال تكراره. وهكذا، فإن الشراكة الروسية- السورية- الإيرانية أثبتت وتثبت من جديد قدرتها على التعاطي العقلاني مع جميع ملفات المنطقة، ولقد أدت هذه الشراكة في إداراة صراعات المنطقة إلى تخفيض مستوى هيمنة القوى الغربية في الشرق الأوسط، ومنعتها من الاستفراد بملفاته الحسّاسة.

العدد 1104 - 24/4/2024