واقع السياحة في سورية والترويج لها… قبل الأزمة وخلالها

سورية الحضارة والتاريخ والسياحة، حديثٌ يبدأ ولا ينتهي.. يبدأ من حيث بدأت فصول الحضارة وأعلنت للبشرية جمعاء انطلاق الحياة بمعانيها الأساسية الأولى، وبلوغ الإنسان السوري مرحلةً إنسانيةً متقدمةً في بيئة كان أكثرَ ما يميزها – حسب التركة الأثريةهو شموخ هذا الإنسان.. فالسوريُّ منتصب القامةمنذ مليون سنة.. وهذا ما أكّدته المعطيات والأبحاث، وما أثبتته مجريات التاريخ.

أشارت معلومات وزارة السياحة خلال سنوات الأزمة إلى تراجع كبير في أعداد السياح وإيرادات السياحة نظراً للظروف الصعبة التي فرضتها الأزمة، وكان من بين الحلول المطروحة الاتجاه شرقاً، تنشيط السياحة الداخلية والدينية والثقافية، وتوظيف الدراما السورية في الترويج للمنتج السياحي السوري. إن من الضروري في الوقت الراهن مراجعة أسباب تعثّر قطاع السياحة قبل الأزمة وخلالها من أجل التحضير لانطلاقة جديدة، على أن يكون من بين أولوياتها تنشيط السياحة الثقافية الأثرية لأنها الجاذب الأكبر للسيّاح – من الخارج والداخل- في حال حقق الترويج لها شروطه العلمية والفنية.

تعد وزارات الثقافة والسياحة والإعلام مسؤولة عن الترويج للحضارة السورية والتعريف بها، وهذا النوع من الترويج يجب أن يُسبَق بعملية تأهيل وحماية وحفاظ، وفي حين يشتكي مسؤولون من (كثرة المواقع التراثية وقلة الإمكانيات) فإننا نرى أن العكس هو الذي يجب أن يحدث، فكلما ازداد عدد المواقع التراثية يجب أن تتوفر الإمكانيات لاستثمارها، واستثمارها الناجع يشكّل – ببساطة- مصادر هامة جداً لخزينة الدولة.. أما إمكانيات الاستثمار فتتوفر –كما كانت تتوفر- عبر منح دولية وعربية سخية.. وللإشارة فقطاع الآثار والمتاحف حظي بالكثير من هذه المنح في السنوات العشر الفائتة لتطوير (السياحة الثقافية) و(توثيق الآثار وتطوير المتاحف) وتأهيل بعض القلاع والمباني والمواقع الأثرية… ولكن القطاع المذكور ما زال يعاني رغم المنح السخية، وقد زادته الأزمة الحالية معاناة (مع التنبيه إلى ضرورة عدم إلقاء المسؤولية كلها على عاتق الأزمة لأن في ذلك تنصّلاً للبعض من مسؤولياتهم).. ومن المفروض أن الإجراءات الطبيعية لقطاع هام كالآثار والمتاحف يجب أن تضمن حمايته في أقسى الظروف.. ولا يمكننا الترويج لقطعنا التراثية دون حمايتها الحماية المثلى – ومن ضمنها التوثيق الحقيقي الذي تتضمن برامجه حماية القطع، ومن ناحية أخرى وعد مسؤولون عبر وسائل الإعلام بتوظيف كل خريجي الآثار في القطر مما ينعكس إيجاباً على عمليات التأهيل والتوثيق والحماية، إلا أن ذلك لم يحدث، كما وعد وزير أسبق للثقافة بتعيين آلاف الحراس للمواقع الأثرية،لكن ذلك – أيضاً- لم يحدث…إذاً فالقطاع يعاني، وبالتالي فالترويج له – ليحتل مكانته في مجال السياحة- ممكن لكنه ليس سهلاً..

أماالمشاريع الممولة ذاتياً ومشاريع المبادرات الفردية ذات الانعكاس الإيجابي على المصلحة العامةوالتي تحمل صفة الترويج فهي قليلة بسبب عرقلتها أحياناً.. ومع الأسف تأتي العرقلة رغبةً في تخفيض الأسهم الشخصية للبعض في إطار (وهم) التنافس على مواقع المسؤولية، وهذه العملية تنطوي على تخفيض أسهم البلد وإمكانيات كوادره،ولتنشيط السياحة ذات البعد الثقافي في البلاد، لا بد من الأفلام الوثائقية الترويجية المحترفة عن الحضارة السورية، ولا بد من مطويات تخص أوابد وقلاع البلد وتاريخه، مطويات تعرّف بالمواقع الأثرية السياحية السورية بأقلام ورؤية المختصين، فلا بد من التعريف الأمثل بمواقعنا الحضارية، ذلك أن إمكانيات نشر الدعاية السياحية تتوفر لمن هم غير مختصين، فنرى أخطاء عدة لا يمكن تلافيها بعد النشر بسبب عدم التنسيق مع المختصين، هذا فضلاً عن أن بعض المؤسسات ذات الطابع الدولي تقوم أحياناً بالتعريف بمواقعنا عبر المطويات وغيرها لكنها تُضمّن أعمالها – غير المدققة علمياً في أحيان كثيرة- بدعايات لها، كما لا بد من إعادة الروح لأغانٍ فلكلورية سورية نادرة بالتنسيق مع (الأوركسترات) السورية، وتصوير هذه الأغانيمع رقصاتها الشعبية التي تخص كل السوريين في محافظاتهم بالأزياء الخاصة لكل محافظة، وهو مشروع بالغ الأهمية لما ينطوي عليه من توثيق وإبراز للهوية السورية وأطياف السوريين، كما يحمل سمة سياحية هامة.

لماذا نلاحظ على بعض فعاليات الثقافة والسياحة والإعلام المحلي والدراما الوطنية إصراراً على عدم الخروج من (باب الحارة) أو (سوق الحميدية)، وذلك في جل الأنشطة الدمشقية على سبيل المثال؟..وهنا أذكر أنه تم تقديم (عراضة) ضمن أحد برامج احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية عام 2008 بمشاركة الخيول، فانطلقت هذه العراضة من بيت التراث الدمشقي (قصر خالد العظم) في شارع الثورة/خلف مبنى المصالح العقارية إلى العمارة، أما ما أفسد هذا النشاط فكان روث الخيولالذي لطّخ شوارع دمشق القديمة وأزعجالجمهور والخيول على حد سواء…! بالمناسبة فالترويج السياحي لدمشق –كأقدم عاصمة- بقي حبيس جدران وأبواب حاراتها الضيقة في عديد الأحيان رغم أن سور دمشق يحتضن الكثير والكثير من تركتها الحضارية عبر عصور التاريخ – كما لم يضف هذا الترويج إلى طرابيش سوق الحميدية جديداً –ولو كان قديماً-… فلماذا لا نعبّر عن دمشق – وغيرها- لزوّارهابحملة إعلانية طرقية يتم من خلالها التعريف الحقيقي بها وبتاريخها القديم والوسيط والحديث عبر اللوحة والكلمة والصورة المضاءة، الأمر الذي يجذب انتباه واهتمام السائح الخارجي والداخلي، ولو على حساب مزاج أسرة (باب الحارة) ومموليها! المشكلة في قطاع الآثار والمتاحف –كقطاع يمكن أن يسهم في تطوير السياحة في البلد- تكمن في عدم استثمار المختصين وعدم الاطلاع على سيرتهم في العلم والعمل والموهبة والإمكانية. لذا على المسؤول الوزاري الكبير (في مسؤوليته) أن يستمع إلىكوادر مؤسسته، لا أن يترك المهمة للآخرين، فلا أحد يستطيع التعبير عن الآخر إلا بالقدر والكيفية التي يريدهما.. وبالتالي فلميستغرب أحد وجود (مهندس)أو (فنان تشكيلي) لإدارة دائرة آثار أو متحف، أو حتى لتطوير المتاحف كلها(!)، بينما تنحصر أحياناً مهام بعض المتخصصين في التوقيع على جدول الدوام…

   والطموح الآن هو التغلّب على الظروف الصعبة التي سبّبتها الأزمة الحالية، ومعالجة أسباب فشل الإدارات قبل الأزمة من أجل العمل على تخديم المناطق والمواقع والمباني الأثرية وتحصين تاريخها بشكل لائق لجعلها صالحة للزيارة وتحويلها إلى مقاصد سياحية يتوافد إليها السيّاح من كل مكان، مع إطلاق حملات الترويج المدروسة -المتضمنة للأفلام الوثائقية والإعلانات المختلفة- باستثمار الخبرات الوطنية، وتسليط الأضواء على حُسن تعامل السوريين وروعة تقاليدهم.. ويجب أن يكون ذلك ثمرة تعاون وتنسيق بين وزارات الثقافة والسياحة والإعلام، على أن يتولى هذه المهمة المختصون حصراً من أجل توظيفٍ أمثل للمعلومة التاريخية والأثرية سياحياً، إذ لا يكتمل التعريف بالمنجزات الحضارية دون تسليط الضوء على بيئتها ومحيطها ومسيرتها الزمنية والجغرافية.. كما لا يُحبَّذ الترويج للسياحة الدينية- مثلاً- خارج الإطار الحضاري للمنطقة التي احتضنت معتقدات الإنسان منذ القدم كميزة حضارية تعكس تطوراً ثقافياً هاماً عبر العصور.

أما المتاحف السورية فهي وجهة سياحية أيضاً حين يتحقق تطويرها وتزويدها بوسائل الإيضاح الحديثة.

العدد 1105 - 01/5/2024