الكوابح المعطِّلة للتغيير الاقتصادي

باستيراد المازوت ليبرروا رفع ثمنه بعد أن وجد هؤلاء المستوردون من لبنان، وكلنا يعرف ارتفاع الأجور والتكاليف بلبنان و طبيعة الظرف الذي فرض هذه الخطوة والتخلص من أغلبه لتتصدر الحكومة بنية تعديل أسعار الوقود الذي تبقى المشاكل الاقتصادية هي محور اهتمام أغلب البلدان، وتسعى الحكومات لحلها عبر الاستثمار الفعال لمواردها بما يحقق الكفاية و الفعالية، ولكن حل المشكلة الاقتصادية ليست غاية نهائية وإنما هي طريق أو وسيلة للوصول إلى الغاية الأسمى لأي بلد وهي علاج المشاكل الاجتماعية وتقويضها، للوصول إلى مجتمع عادل يحقق لمواطنيه الحاجات الأساسية في العمل والتعلم والصحة والسكن اللائق وحرية العقيدة و التعبير، ولا يتحقق ذلك إلا عبر برامج تنموية مستقلة مستمرة متوازنة، وهذه البرامج تعطي الهوية الاقتصادية للبلد، وبالتالي يبقى تأمين هذه الحاجات غاية، ومعدل تأمينها هو بوصلة للسياسات الضرورية وما يستوجب التعديل من أجل تحقيق الكفاءة الأكثر و العدالة الأوسع، ولكن التغيير في السياسات لا يمر بالسهولة المتصورة عندما يكون هناك ضرر لمصالح فئات أو شخصيات من هذا التغيير.

وهنا تعمل قوى العرقلة حسب السياسة المعتمدة، ففي ظل التحول نحو نهج أكثر عدالة وأكثر سيطرة للحكومة بالموارد الاقتصادية عبر استملاكات أو تأميم أو توزيع ملكيات أو محاربة فساد لزيادة عائدات الدولة، فإن الأقلية المالكة أو المستفيدة ستستخدم شتى الطرق و الأساليب لمنع هذه التغيرات وعرقلتها، ولو اضطرت لخلق البلبلة والفوضى والاستعانة بقوى خارجية، وتكون فعالية هذه القوى متعاكسة مع سعة الفئات المستفيدة منها وانتشارها وحجمها، وهو ما وجدناه في ستينيات القرن الماضي عبر سياسات اقتصادية اجتماعية شكلت طبقة وسطى صلبة وأعطت مؤشرات اقتصادية اجتماعية قل وجودها عبر تنمية شاملة مستقرة متوازنة، بمعدل نمو مرتفع وديون معدومة واحتياطات نقدية جيدة وبنى تحتية منتشرة أفقياً وعمودياً وخدمات صحية وتعليمية جيدة ومجانية وحالة معيشية جيدة وأمن غذائي وأمن اجتماعي، ومنظمات قوية وفاعلة وإن كان يعيبها غياب جزئي للحريات أو التعددية الحزبية إلا أن النتائج الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن التقليل من أهميتها ولا من الجهود المبذولة لها. ومنذ ذلك الانتقال الاقتصادي ظلت قوى طبقية تضررت جزئياً من هذه التغيرات تعمل للانتقام واستعادة ما عدّوه سلباً، ولو أن العائد رجعياً للملكيات لعرف كيفية وصول أغلب أصحابها من إقطاعيين وآغوات، وتحالف بقايا هؤلاء مع تصدّر طبقة جديدة راكمت أموالها عبر الفساد أو عبر الامتيازات غير العادلة، وتقاطعاً مع الرؤية الإمبريالية التي أعلنت مشروعها عبر مقررات مؤتمر واشنطن للسير قدماً نحو أمركة العالم، وبدأت بغزو ثقافي فكري غرائزي لمحو الهويات الوطنية المتجذرة وتسهيل مرور أي تغيير، وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والقومية والعرقية، وهذا الغزو تمهيداً لتغيير مفروض لسياسات اقتصادية تدعم الفردية المختارة بدلاً من العمل الجماعي الحكومي الموجه للشعب.

الفردية المختارة عبر سلوكيات تحابي قلة ضمن قوانين مبرمجة لا تشجع التنافس ولا التنافسية وتقوض دور الدولة راعياً وقائداً للتنمية، وتضعف دور المؤسسات وتقضي على القطاع العام. إن عدم تقبل المجتمع لقرارات كهذه سيؤدي إلى فرض هذه السياسات بأسلوب الصدمة عبر العنف والتعنيف وعبر بث الفوضى وعبر تأديب المعرقلين بالقتل والتدمير، ورغم كل الضغوط لم يستطع حاملو مشروع ما بعد اللبرلة من تمريره لوجود بقايا منظمات ومؤسسات وأحزاب ذات فعالية مستندة لقوى تقاطعت مصالحها مع هذه التشكيلات، ولو أن هذه التغييرات قد أثرت بالبنى وشكلت مدخلاً لتهشيم الصلابة وبوابة عبور لمشاريع دموية تدميرية قاهرة، ولكن خلال سنوات الأزمة السبع ومع فيضان الدم فوجىء المتابع بتمرير ما عُجز عن تمريره قبل الدم و الدمار عبر أدوات حكومية استمرت بنهج العرابين نفسه، وأدوات البنك الدولي، واستطاعت تمرير أكثر مما كان مطلوب من السابقين وسط الاختباء من الأزمة ووفق قرارات تحابي قلة على حساب الوطن والدم، ووسط نهج سالب لكل ما حصل عليه المواطن من عدالة وحقوق من عمل وتعليم وصحة ومسكن وحياة مقبولة، وكل هذا يمر وسط صمت مطلق ووسط تبريرات لا واقعية لها ولا مناسبة لوجودها وكل عرّابي هذه القرارات مختبئون وراء الأزمة والضرورة، وكلنا نعرف أن التحصين الداخلي بهذه الظروف هو التخندق الوحيد الذي يواجه المشاريع المنفذة لدول لا أمان لها ولم تكن لتستطيع أن تحصل على ما وصلنا إليه وبخسائر أقل لو لم نسر مع مراد أدواتهم. ولكن الملاحظ هو سهولة سير هذه القرارات من دون أي ممانعة ومعارضة من المؤسسات والمنظمات المنوط بها الدفاع عن المواطنين والبلد، فعدم إقامة حكومة أزمة أو حكومة عسكرية ترك المسألة بيد المؤسسات والهيئات والأحزاب والبرلمان والسلطة الرابعة الإعلام، ولكن للأسف لم تستطع كل هذه التشكيلات أن تعرقل أي قرار أو تدافع عن حقوق مواطن أو بلد إلا بالتنظير أو رفع الصوت في صحراء قاحلة، وكأنها تحولت لهياكل بلا روح، فسؤالنا: كم مرة استطاع البرلمان أن يحاسب أو يعاقب مسؤولاً مرتكباً أو قائداً لهذه التحولات، أو يتخذ قرارات ملزمة بالعدول عن قرارات، وكذلك اتحاد الفلاحين و العمال والجبهة وغيرها، أكبر مثال هو موضوع أسعار الدواء التي رفعت مرتين، في الأولى بعد أن قال رئيس الوزراء رفع الدواء خط أحمر، ورفعت ثانية فنطق الوزير أنه لا تعديل على أسعار الدواء، والموضوع الثاني أسعار الأسمدة، فطنّ اليوريا كان قبل الأزمة بـ6000 ليرة و اليوم بـ210 آلاف بعد أن سمحت الحكومة لاتحاد الفلاحين باستيراده، ولكن بهذا السعر الذي يحابي سعر محتكري الاستيراد الذين يربحون مئات الآلاف بالطن. وكلنا يعرف الضرر القادم اللاحق لرفع سعره على الزراعة وعلى انكفاء الكثير من الفلاحين عن زراعة الخضار التي تعتمد عليه، وكذلك بعد قرار استثنائي يسمح لبعض المحسوبيات سيخرب البلد أكثر مما وصلنا إليه، وسيؤدي إلى موت جماعي من الجوع.

 وآخر موضوع هو البطاطا طعام الفقراء فقد اغتنى قلة من المتاجرة بها، وحتى مؤسسة التجارة أصبح همها الربح وفرض أسعار غير تدخلية تقارب السوق ولا تزعل التجار، وخذ أمثلة تمرير العشرات من الضرائب والبدلات ورفع الرسوم أضعافاً مضاعفة، وتفشي الفساد المسرطن بعلانية وشفافية مرهقة وقاتلة والمتاجرة بالدماء، وتفشي الفوضى والانحلال الأخلاقي والقيمي وكل ذلك يسير وسط مسهلات مريحة بدلاً من كبحها ولجمها، وبدل العودة إلى الأمن والأمان وتقوية الداخل عبر تحسين معيشته وعبر مواجهة تجار الأزمة داعشي الداخل، بالتوازي مع ما تحققه المؤسسة العسكرية من انتصارات على إرهابيي الخارج وسط استكلاب القوى الإمبريالية و أدواتها، وسؤالنا يبقى: من يكبح المنظمات والمؤسسات عن أخذ دورها المعيق لسياسات ضد المواطن وتعاكس أهدافها؟ وكيف يكبحون؟ هل عبر عدم توصيل الكفاءات أو عبر فرض رؤى أو عبر عدم وجود أدوات فعالة لدى هذه المنظمات لعرقلة المشاريع المخالفة لوجودها، علماً أن شعبية الأحزاب والمنظمات تحققت بوقوفها مع مصالح الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين، فمن سيقف مع هؤلاء إن لم تقف المنظمات والأحزاب؟ وكيف ستعمل على شعبيتها إن لم تقف مع مصالحها؟ إن عدم وجود ممانعة ومواجهة لهذا الانسياب الإسهالي بالقرارات الضارة بالمواطن والبلد هو دليل مرض مزمن، العلاج منه بتقوية دور المؤسسات وخاصة العسكرية لمواجهة من يعمل دورها بشكل مسيء للمواطن وللوطن في ظروف الأزمات، وفي حال توفر العقلانية، ضبط الفوضى وفرض القوانين الجامعة المقوية أسّ البناء وتقوية وتحصين الداخل الذي منه سيكون الحل، في ظل عدم رغبة الخارج في الوصول إلى حل، والسرور تقاطعاً مع تجار الأزمة بالداخل باستمرار نزيف الجرح وضعف دور الحكومة بقيادة البلد وبمعالجة أمور ومشاكل المواطنين.

العدد 1107 - 22/5/2024