محافظة إدلب… النموذج الحي للديمقراطية الأمريكية!

قد يبدو عنوان مقالتي غريباً، إلا أنني انتقيته بعد جولة طويلة من التفكير. وقبل توغلي في شرح المفاهيم والأفكار التي أردتُ نقلها إلى القارئ الكريم، لا بد من توجيه التحية إلى أهلنا المحبين المخلصين لوطنهم سورية في هذه المحافظة الجميلة، الذين يعيشون أشد أنواع المعاناة والبؤس والضنك بسبب رفضهم الخضوع لإرادة قوى الإرهاب، فتمسكوا ببيوتهم وأراضيهم رغم شدة الضغوط، فهم بذلك يجسدون المثل الأعلى للوطنية والتمسك بالحقوق.

تحولت محافظة إدلب في الآونة الأخيرة إلى معرضٍ لما دأبت وسائل الإعلام الغربية والعربية على تسميتها بـ (قوى المعارضة) منذ بداية الأزمة السورية. فمن معظم المناطق السورية واللبنانية أيضاً جرى نقل المسلحين مع عائلاتهم ومؤيديهم إلى هذه المحافظة الجميلة، حتى أضحى بإمكان الباحث المستجد التعرف على طبيعة القوى المناهضة للدولة السورية بمجرد استقصاء المجموعات التي بدأت بالتمركز في إدلب.

لن نخوض في تحليل مستقبل الصراع في هذه المحافظة، فلقد أصبحت أهداف الاستراتيجية السورية من تجميع المسلحين فيها واضحة تماماً، إذ إن حصر الصراع في بقعة جغرافية معينة سيُسهّل المعالجة اللاحقة له، ويخفف العبء عن الجيش العربي السوري وحلفائه، وهذا من بديهيات الحروب. المفارقة الكبرى، في تاريخ الأزمة السورية المليئة بالمفارقات، هو أن محافظة إدلب لم تعد تثير اهتمام من سمّوا أنفسهم بـ (مجموعة أصدقاء الشعب السوري)، على الرغم من أن المجموعات المسلحة هي نفسها لم تتغير، والفارق الوحيد هو مكان وجودها لا أكثر. وتوحي سيرورة الأحداث بأن (أصدقاء الشعب السوري) تخلَّوا كلياً عن دعم هذه المجموعات، على الرغم من أن محافظة ادلب تشترك بحدود طويلة مع تركيا، أي أن الإمكانيات اللوجستية متوفرة بشكل جيد.

ولقد طرحت الصحافة الغربية سؤالاً مريباً وغريباً وخبيثاً ومُحرِجاً لصانعي القرار في الغرب، وهو: لماذا لا تتحول محافظة ادلب إلى نواة لسورية الديمقراطية، كما أردتموها أن تكون منذ بداية الأحداث؟! ففي هذه المحافظة تتوفر جميع خصائص (الدولة)، التي دأبتم على تصويرها للناس عن سورية المستقبل! إذ إن هذه (الدولة) لا تقع تحت سيطرة (النظام السوري)، كما أن الجماعات المسلحة تناضل من أجل الأهداف نفسها التي وضعتموها منذ عام 2011، إضافة إلى أن هذه الجماعات متحالفة معكم بشكل أو بآخر.

الحقيقة، التي أصبحت واضحة للجميع، هي أن الغرب استثمر هذه الجماعات منذ بداية الأحداث كـ (جندي قذر) لتخريب الدولة السورية، ومن البديهي أن حصر هذه الجماعات في منطقة معينة سيجعل هذا الهدف بعيد المنال، وهنا انتهت صداقة الغرب المنافق لـ (الشعب السوري). إضافة إلى ما سبق، فإن هذه الجماعات تساقطت الواحدة تلو الأخرى أمام ضربات أبطال الجيش العربي السوري وحلفائه، وأصبح واضحاً أن دعم هذه الجماعات، سواء أكانت معتدلة أو غير معتدلة، وفقاً للمعايير الأمريكية، لن يجدي نفعاً؛ فالحلف الذي نشأ على خلفية الأزمة السورية، والمتكون من روسيا وسورية وإيران والعراق والمقاومة اللبنانية، قويٌّ وصداقته متينةٌ واستراتيجية. والمفارقة الثانية، أو بالأحرى المصادفة، التي أردت الإشارة إليها في هذا الموضوع، هي المقاربة الأمريكية، أو النهج الأمريكي في تحقيق الديمقراطية، التي تقوم على تحويل الشعب السوري إلى جملة من القوى والكتل والأحزاب السياسية-العسكرية المتصارعة فيما بينها على كرسي الحكم، ومن الطبيعي أن ينهك الصراع هذه القوى، وستضطر جميعها للجوء إلى ما يشبه (الحل الديموقراطي)، إلا أن هذا الحل سيكون مصمماً وفقاً للمعايير الأمريكية وليس وفقاً للمصالح الوطنية للدولة السورية. وتاريخ الولايات المتحدة نفسه يشهد على ذلك، فلقد تبلور نموذجهم الديموقراطي بعد حرب أهلية دامية في الفترة 1861-1865. وفي الحقيقة، لم يتغير هذا النموذج كثيراً منذ ذلك الحين، إذ إن حالة الصراع انتقلت من الميدان إلى الإعلام، حتى بات الإعلام في الولايات المتحدة الأمريكية أداةً للتأثير والتلاعب بالرأي العام. إضافة إلى ما سبق، فإن السلوك الأمريكي في أفغانستان والعراق ونهجهم في تحقيق الديموقراطية، يدعم هذه الفرضية وبقوة أيضاً. في الواقع، إن الجماعات المسلحة المتمركزة في إدلب الآن، هي جماعات متصارعة فيما بينها، كما أن الخلافات الإيديولوجية كثيرة وعميقة، وخير دليل على ذلك هي الحالات المستمرة للاندماج والانشقاق التي أصبحت من المميزات اللصيقة بها.

بعد هذه المقدمات، نرى أن محافظة ادلب تحقق تماماً شروط النموذج الأمريكي للديمقراطية، إلا أن توافر هذه الشروط في منطقة مغلقة يعتبر غير مفيد وغير مثمر من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فالغاية كانت جعل سورية كلها على شاكلة إدلب؛ مليئة بالجماعات المتصارعة فيما بينها، إلا أن آمالهم قد خابت ومساعيهم قد أُحبِطت، تحت ضربات الأبطال في حلف الأصدقاء الحقيقيين للشعب السوري. وفي هذه المناسبة نبارك للإدارة الأمريكية صداقتها مع هذه الجماعات الإجرامية الإرهابية المخربة، والتي أصبحت فسيفساؤها في محافظة إدلب واضحة، حتى لعميان البصر والبصيرة.

وأختم مقالتي بتذكيرهم بعبارة بديهية وجميلة من رواية الأخوين أركادي وبوريس ستروغاتسكي (من الصعب أن تصبح إلهاً): (عندما تنتصر البلادة، فسيصل الظلاميون إلى السلطة).

العدد 1104 - 24/4/2024