بهذه الطريقة تعيد الحكومة احتياطي القطع الأجنبي المنهوب

لم يتحرك سعر صرف الليرة، منذ الأسبوع الماضي، بشكل مؤثر، رغم المخاض السياسي والعسكري، والتطورات الهائلة التي حدثت. مجمل هذه الظروف كانت تشكل بيئة مناسبة للحكومة السابقة، لتتلاعب بسعر الصرف، وتضخ ملايين الدولارات في سوق وهمية. بيع وشراء على الورق باسم المواطن، فيما المبالغ تذهب حتماً إلى قوى اقتصادية ومراكز نفوذ مالية، اعتادت الصيد السهل، وجني الثروات الطائلة. ومنحتها الحكومة السابقة صكوك الوطنية، على ممارساتها ونشاطاتها المتعددة، ومنها الاستيراد.

أثبت السوريون، قاطعين الشك باليقين، أن غريزة القطيع التي تغنى بها حاكم المركزي السابق أديب ميالة والفريق الاقتصادي، والإجراءات القاصرة، ذرّت الرماد في العيون. إذ سقطت إجراءات ميالة، وانكشفت ألاعيب الحكومة السابقة غير المتقنة في حبكتها، أمام ما جرى في حلب. وتبينت حقيقة الاستهدافات الممنهجة لليرة، وظهرت، كما لم تغب يوماً، الخيوط العنكبوتية التي تلاعبت بالليرة وقيمتها. ومن حسن حظنا حالياً، غياب تفسيرات الحكومة السابقة، وأفكارها التبريرية، وقناعاتها الخاطئة، ومواقفها المتعنتة. كل الظروف الموضوعية، وفقاً للرواية الحكومية السابقة، تحتم خسارة الليرة لجزء جديد من قيمتها، وفقدانها الـ 10 بالمئة المتبقية من قيمتها السوقية أمام القطع الأجنبي. السؤال: لماذا لم يتجه سعر الصرف صعوداً؟ لا يكفي هنا، فما ينفع هو عدم حجب الحقائق بالغربال، إذ إن ممثلي اللاعبين تغيروا، وربما تغير بعض اللاعبين أنفسهم، وقواعد اللعبة أيضاً.

اقترف المتورطون المذكورون أعلاه جرائم بحق الليرة، لقد خططوا لهذا الأمر، ووضعوا أدوات تنفيذية، للمساس بما تبقى من احتياطي قطع أجنبي، وتحويله من عنصر قوة في الاقتصاد الوطني، إلى مراكمة أرباح إضافية في حساباتهم، أو من يمثلون من قوى الظل. وفي السياق عينه، تثبت قضية تمويل المستوردات التواطؤ الحكومي السابق، في تبديد قيمة الليرة، وهدر احتياطياتها الداعمة.

استثمر وزير الاقتصاد السابق همام الجزائري هذه القضية، وتعامل معها بسرية، ورفض الحديث عنها، ولم يسمح لمعاونه بتناولها. القاعدة الإعلامية تؤكد، أنه أمام هذا الرفض، ثمة شيء يريدون إخفاءه، وهو جريمة اقتصادية كبرى، ومساس بالاقتصاد الوطني. ظهرت الأسبوع الماضي أولى خيوط اللعبة، إذ أشار رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال جمال القادري في حديث صحفي إلى أنه في الفترة الماضية (مُنحَت 10 إجازات استيراد للأعلاف لعدد من التجار، لكن النتيجة أن هناك تاجراً واحداً قام بشراء هذه الإجازات كلها، وأصبح يتحكم بالمادة ما أدى إلى فقدانها من الأسواق). الملاحظة الإضافية التي يمكن ذكرها هنا، هي أن الأرباح المحققة من بيع إجازات الاستيراد، وما حصل عليه المستورد من قطع أجنبي، أكبر بكثير من جدوى الاستيراد. وهنا تبدأ القصة الحقيقية لإجازات الاستيراد، وأسس توزيعها، وقواعد ومعايير منحها، من قبل همام الجزائري.

لم تعد ليرتنا في موقع المهاجم، إذ إنها تلقت ما يكفي من خسائر، وفقدت قيمتها العظمى، لكن هذا ليس نهاية النفق، إنه بداية الطريق لوضع النقاط على الحروف، ويمكن تعويض هذه الخسائر. إننا نتحدث عن مليارات الدولارات التي (شفطتها) قوى نافذة ومتحكمة بالاقتصاد، عبر أداة مسكينة هي شركات الصرافة. العملية سهلة، وتعيد الحقوق لملايين السوريين من عدد قد يتجاوز أصابع اليدين بقليل، من الذين سرقوا هذه الثروة، وحولوها من خزينة الشعب في المصرف المركزي، إلى خزائنهم الخاصة.

ليس مهماً التساؤل عن مصير 18 مليار دولار كانت تشكل احتياطياً استراتيجياً في المصرف المركزي، بل المهم كيف يمكن استرجاع ما بيع من القطع الأجنبي، تحت قرارات فُصِّلَت على مقاس القلة، الذين استحوذوا على هذه الثروة التي تعود ملكيتها للشعب السوري. القضية ليست نصب أعواد مشانق، بل إعادة أموال. لا نريد دماء أو خطف أرواح، فقط أعيدوا القطع الأجنبي المنهوب والمسروق، وعندئذ تصحّ مقولة (المسامح كريم)، وبالتأكيد في حال عدم الاستجابة، ثمة حديث أخر. هذا مطلب لا بد للقوى النقابية والسياسية والحزبية وغيرها من تفعيله، وتغذيته بالدعم المطلوب، وتشكيل جبهة تصرّ على إعادة مال الناس. تحتم كل الظروف السياسية والاقتصادية التوجه نحو هذا المطلب، إنها نقطة انطلاق، من خلال البدء بحملة تتناول كبار من استغلوا الظروف، وليس تجار البسطات. إذ آن الآوان للبدء الحقيقي بشطف الدرج وفقاً للقاعدة المتفق عليها، أي من الأعلى، ونعتقد أن البقية سيأتون صاغرين لتسليم ما نهبوه. ومن المطلوب أن تفعلها حكومة عماد خميس، ليس من أجل أن تكسب شعبية، إنما لتمارس دورها المنوط، وتعيد ما لخزانة الدولة إليها، وتحاسب المتورطين من داخل أروقتها أيضاً، الذين وقفوا صفاً واحداً مع الآخرين بمختلف تصنيفاتهم واصطفافاتهم، ضد ليرتنا واقتصادنا.

العدد 1105 - 01/5/2024