إدلب والإيقاع الروسي التركي

 تبقى التفاهُمات بين روسيا وتركيا حول الأزمة السورية غير مستقرة، لكنها مضبوطة بشكل عام على إيقاع التحرك الروسي في الميدان، وهي، منذ تحرير الجيش السوري مدينة دير الزور، أصبحت أكثر تحرراً من الأوراق التركية، وأكثر قدرة على التحكم في المسار السياسي الذي تريده.

مع ذلك وضمن إمكاناتها المُتاحة سخرت أنقرة كل الوسائل الممكنة لتحييد المجموعات الإسلامية المسلحة المنتشرة في إدلب عن الضربات الجوية للطيران الروسي والسوري، وقامت بالتركيز على إرساء قواعد حكم مدني في المدن والبلدات الرئيسية، لكن الأمور لم تسر بالشكل الذي تريده تحت ضغط خارجي متزايد من أن تتحول محافظة إدلب إلى مصدر خطر دولي، وانطلاقة تصدير للإرهابيين الذين يقدّر عددهم بنحو 20 ألف مقاتل، تحديداً إلى دول الاتحاد الروسي والقوقاز.

وأطلق ممثل قاعدة حميميم الروسية في سورية، أليكسندر إيفانوف، تصريحاً قال فيه بأنه: (لن يكون مصير مدينة إدلب السورية، مختلفاً عما حصل في مدينة الموصل في العراق في حال سيطرة (هيئة تحرير الشام) على كامل إدلب)، وأضاف: (سيكون للقوات الروسية دور مباشر في المعركة، كما كان في مدينة تدمر ومناطق ريف حمص الشرقي).

قرأت تركيا جيداً خطورة تغيير قواعد اللعبة في هذه المنطقة، وقررت جدياً إدراج محافظة إدلب ضمن اتفاق مناطق خفض التصعيد الأربع، واقترحت في أستانة 4 إقامة قاعدة عسكرية في جبل عيسى، ثاني أعلى قمّة في سورية، يمكنها من خلالها رصْد مساحات واسعة من مناطق عفرين السورية ذات الغالبية الكردية.

لكن اللعبة التركية كانت مكشوفة، وقال مندوب سورية السيد بشّار الجعفري في مؤتمر صحفي بعد نهاية اجتماعات أستانا 4 إن (أنقرة حاولت خلال المباحثات ابتزاز روسيا وإيران في إدراج إدلب ضمن مناطق التهدئة الأربع).

لم تخرج الدول الضامنة في هذا الاجتماع باتفاق حول إدلب، لكن لوحظ بعد هذا الاجتماع وبتوقيت لا يخلو من المعنى، ازدياد الحوادث الأمنية والاغتيالات بشكل لافت بين الجماعات الإسلامية المسلحة في هذه المحافظة، وسجل في الفترة القريبة السابقة اغتيال أبو يحيى التونسي ومحمد الجزراوي وسُراق المكي وأبو سلمان المغربي وأبو دجانة الفرنسي، وهم قادة (شرعيون) معروفون، إضافة إلى أن عشرات القياديين الميدانيين تعرضوا للمصير نفسه، وجاءت هذه الاغتيالات أو في معظمها على خلفية فتاوى تشريع قتال (حركة أحرار الشام) من عدمها.

ومن المرجح أيضاً أن تكون هذه الاغتيالات هي من تدبير أبو محمد الجولاني الذي أثبت عدم أهليته في التفاف القوى المتطرفة الإسلامية حوله، إضافة إلى الاحتجاجات الواسعة من بقية الفصائل الإسلامية المسلحة الأخرى المنتشرة في إدلب على فساد مقرّبيه وقيادييه وممارساتهم.

 لكن يبقى العامل الخارجي هو الأقوى فيما يحصل من حرب الاغتيالات هذه، فالسعي التركي الحثيث لتدجين (هيئة تحرير الشام) وتحويلها إلى كيان خدماتي وأمني رسمي، هو مطلب روسي-إيراني، في معرض التفاهمات والتنسيق في اجتماعات أستانا.

لكن هذا المسار (المدني) قد قوبل برفض قاطع من مجموعة كبيرة من القياديين الجهاديين داخل (الهيئة) وخارجها، وعلى ما سبق يمكن أن نقدّر أن اغتيال القادة الشرعيين المناوئين للمسار (المدني) هو مطلب تركي سوف يسهل مهمة أنقرة تحويل عناصر (الهيئة) إلى قوات أمنية نظامية، دون أن نقلل من أهمية أجهزة استخبارات متعددة قد تدخلت بشكل مباشر أو غير مباشر لمنع عودة أولئك القياديين إلى أوطانهم الأم، مع ما يمكن أن تسببه عودتهم من مخاطر أمنية.

السعي التركي يبقى ضمن المجال النظري، إذ يبدو الواقع أكثر تعقيداً وأكثر صعوبة مع تغلغل المتشددين في جميع تشكيلات المجموعات الإسلامية المسلحة وليس ضمن (الهيئة) فقط، ما يجعل مهمة هذه الأخيرة في إعادة إنتاج نفسها غير ممكنة على الأقل في المدى المتوسط، وهذا يُسجّل فشلاً لأنقرة يمكن أن تستفيد منه روسيا في ضربة مستقبلية محتملة ضد المجموعات الإسلامية المسلحة في إدلب.

 

العدد 1105 - 01/5/2024