أحجار العقيق لإعادة الإعمار… وعودة الأعمار

أيها العمر الضائع عبر أفلاك السماء، الدائر على نفسه كدوران الكواكب، اللامع المضاء، والبعيد كنجمة تهاب النظر إلى الأرض، كيف السبيل إلى عودتك وأنت قاربت بروج السماء؟ فلا أنت كروح صعدت للتو من جسد يزفر زفرات الموت، ولا أنت كنبض لذلك الجسد وقد مزقته تآليل القبح السوداء القادمة إليه من عدوى الأحقاد، فأضحى وجهه كوجه الحرب التي غلفته وسوت الأرض من تحته، وأحالت مسكنه الذي كان إلى أنقاض حيث لا حجر وقف، ولا سقف ندف، ولا حائط يسند عليه الوجع قبل الرأس، لقد هدمت البيوت وهدمت قبلها الأرواح وضاع العمر، ولهدم الروح أقسى وأصعب من هدم الحجر.

كل من هدمت بيوتهم في هذه الحرب قالوا فكرة واحدة عندما سمعوا بإعادة الإعمار: كيف السبيل إلى عودة عمرنا الذي ضاع تحت حجارة البيوت؟ لقد دفن العمر الجميل تحت أنقاض البيت المهدم، لأن ما عانيناه بعد خراب بيوتنا، وتشردنا، وفاقتنا، ووجعنا، جعلنا نفكر ونسأل: أيّ عمر قادم هذا مع عودة العمران؟ هل سيكون لنا شقة بدل البيت الذي دُمّر، أم أنه بدماره دمر كل أمل بالعودة إلى بيت شبيه ببيت العمر الذي كنا نعيش بين خافقيه؟!

ألن تستحوذ الشركات الكبرى في العالم وفي دول الجوار، التي ستتعهد بإعادة الإعمار، على حجارة بيوتنا وما دُفن تحتها، فتزيل الأنقاض وتبني مكانها أبنية برجية ربما لا تليق إلا بالأغنياء، ولن يكون لنا فيها مكان؟!! هكذا يقول أحد المهجرين ممن دمر منزله منذ ست سنوات عندما دخلت داعش إلى الرقة.

على مائدة الإعمار وليمة دسمة سال لها لعاب الكثير من الشركات حول العالم، ذلك أن الخراب يستهوي تلك الشركات لإعادة إعمار ما دمر وجني الأرباح الطائلة، فكلفة إعادة الإعمار قدّرها البنك الدولي بنحو 300 مليار دولار، وهذا يماثل 1400 ضعف ما رصدته الحكومة لإعادة الإعمار في موازنة هذا العام، ووفق توقعات لجنة إعادة الإعمار فإن 5,1 مليون منزل قد تضرر كلياً أو جزئياً، وأكثر من 5500 مدرسة تهدمت، و60 بالمئة من المرافق الصحية أصابها الضرر أو تعطلت، فيما بلغت قيمة الأضرار التي التصقت بأبنية الجهات العامة نحو 6 مليارات دولار.

الحاجة إلى تمويل إعادة الإعمار تظهر مشكلة تأمين مبلغ ضخم، خصوصاً مع هذه الخسائر الفادحة، لا يمكن للدولة السورية وحدها تأمينها، وبالتالي فإنها ستعتمد على البحث عن مصادر تمويل، وهنا تبرز مشكلة أخرى فلا يوجد إلا طريقان وحيدان للتمويل.

أولا: تمويل الاستثمارات من الموارد الطبيعية، وهذا يعني رهن هذه الموارد، وما لذلك من سيئات منها الاستدانة العالية وإهدار الموارد.

ثانياً: من خلال عائدات المشاريع، وهذا يطرح السؤال عن مدى قبول القطاع الخاص بهذا الأمر، الذي سيفرض سن قوانين وعلى رأسها قدسية الملكية والشراكة بين القطاعين العام والخاص.

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن إعادة الإعمار وما مشاركات الكثير من الدول في معرض دمشق الدولي لهذا العام، سوى خطوة لحجز مكان لشركاتها كي تعيد إعمار ما هدمته الحرب.

ولعل احتدام المعارك التي مازالت دائرة حتى اليوم هو ما أخر وسيؤخر البدء بتلك المشاريع التي ستعيد بناء سورية ما بعد انتهاء الحرب.

هذا الكلام هو كلام عملي بحت، أما الكلام الذي لا يقال في هذه المواضع فهو كلام العاطفة والمشاعر والأحاسيس، فمن دمر منزله لا يهمه إعادة الإعمار بل يهمه عودة عمره الضائع، الذي لن يلقاه ما لم يتحقق له تعويض خسارته ببيت جديد، وحتى ذاك الوقت سيطول انتظار لحظة تقرير المصير، فالخوف كل الخوف من ضياع آخر يضاف إلى قائمة المفقودات الكبيرة.

يقال إن حجر العقيق الكريم يساعد حامله على التسامح، وله أيضاً دور كبير في التخفيف من حالات اليأس والضغط النفسي، فهو يحسّن علاقات الحب مع الآخرين ويوطد الانتماء بين أفراد الأسرة الواحدة، ويقال أيضاً إن له أثراً سحرياً، في تزويد الفرد بالقوة والشجاعة والثقة بالنفس، والتغلب على الهموم والملمات والنكبات والذكريات الحزينة، وهذا ما يحتاجه المواطن السوري الذي هدمت الحرب بيته، وأفنت كل جميل، فحبذا لو نخلط نثرات من حجر العقيق الغالي والقيم بأحجار البناء التي سترمم الصدوع وتصوغ الشكل الجديد لبناء جديد ولسكان جدد ينسون بتأثيره السحري مرارة الذكريات السوداء، وتنضح نفوسهم بسيول الأمل والقوة والتسامح، ولتجرف تلك السيول الآلام المدفونة واللحظات القاسية التي سودت حياتهم.

طاقة حجر العقيق هي الحل الامثل للسوري الذي غيبت سنين الحرب مشاعره كإنسان سخي الدمع والمشاعر، فقد جزءاً من مكنونات روحه الخالصة النقية، فهو نقيّ ومازال، ولكن الأنقاض مازالت جاثمة على صدره، ولابد من معجزة كي تعيد له نبضاً يجعله يستعيد حياته السابقة، حيث لا حزن ولا أحقاد ولا فقر ولا تشرد.

معجزة بمعاملته كمواطن له حقوق وواجبات في هذا الوطن الذي ذهبت الحرب ببيوته وأعمار أبنائه، والصوت يعلو من الآن، نريد بيوتاً شبيهة ببيوتنا التي دمرت وفي المكان نفسه، وهذا جلّ ما نطلبه في حال أعيد إعمار ما خرّب!

العدد 1105 - 01/5/2024