الدور التركي المخفي في محافظة إدلب

منذ تحرير مدينة دير الزور على يد الجيش السوري النظامي في 3 تشرين الثاني من هذا العام، تراجعت حدّة المعارك في سورية بشكل عام، وبدا أن الدولة السورية ممسكة بالوضع العسكري والأمني اكثر من أي وقت مضى، لكن هذا لا يلغي أن المخاطر التي تواجه الدولة السورية تبقى عالية، ويمكن أن تتكرس بشكل غير قابل للعودة على المدى المتوسط. فمناطق التصعيد الأربع التي أَقِرّت برعاية الدول الأكثر تأثيرا على الميدان السوري بدأت بتكريس واقع معين على الأراضي السورية، إذ يؤثر الجيش التركي على حزام واسع من الشمال السوري، إضافة إلى مساحات واسعة من محافظة إدلب، فيما تحاول إسرائيل بهجماتها المتكررة على بلدة حضر، ذات الموقع الاستراتيجي، تكريس واقع مشابه على الجنوب الغربي من سورية.

تشكل محافظة إدلب بالنسبة لأنقرة جاذبية جغرافية عالية من حيث البعد الاستراتيجي لأطماعها، عبّر عنها الرئيس التركي مراراً في خطبه قائلاً إن (ما يحدث في المنطقة لا يتطور عشوائياً)، مدّعياً أن هناك مؤامرة تحاك ضد بلاده ومستذكراً بالرفض اتفاق لوزان التاريخي وحدود تركيا الحالية، في إشارات ضمنية استعمارية حول سورية والعراق، وللإشارة فإنه في عام 2023 ستكون أنقرة في حِلِّ من جميع التزاماتها الواردة في اتفاقية لوزان وبضمنها المتعلقة بحقوق الأقليات. وفي بيئة محلية غير مستقرة أمنياً تسعى أنقرة فعلياً إلى تكريس إجراءات تكاد تكون تعسفية في محاولة لدمج المجتمع المحلي في محافظة إدلب بالدولة التركية. ومن البديهي القول هنا مدى التعبئة السياسية التي يمكن أن تفرضها أنقرة على هذا المجتمع في أي تسوية مقبلة في سورية. مع ذلك تبقى هناك توازنات إقليمية ودولية يجب أن تأخذها حكومة العدالة والتنمية بعين الاعتبار حتى تنجح في تكريس احتلالها لأراضٍ سورية. فالدولتان الأكثر تأثيراً في الأزمة السورية، ونقصد هنا إيران وروسيا، كلاهما غير متفقتين تماماً في موقفهما من مخططات تركيا في إدلب، ففي حين تعبر موسكو أنها (وسيط) بين أنقرة ودمشق، تقول طهران إن الجيش السوري سيقوم قريباً بانتزاع السيطرة على إدلب (تصريح لمستشار خامنئي بتاريخ 8 تشرين الثاني 2017)، لكن يبقى الذي صدر عن اجتماع سوتشي في 22 الشهر الجاري بين الرؤساء الثلاثة (بوتين، وأردوغان، وروحاني) هو الأكثر دلالة في مسار الدور التركي في إدلب، إذ يبدو أن الرئيس التركي اقتنع أخيراً بما سعت به روسيا له منذ تحرير الجيش السوري مدينة حلب العام الماضي، أي بدور أمني واقتصادي هام لأنقرة في الشرق الأوسط، مقابل التخلي عن دور سياسي تدخلي لها في كل من سورية والعراق، طالما حلمت به تركيا منذ بدء (الربيع العربي) عام 2011.

هنا من الناحية العملية تقوم تركيا بمسارين متوازيين، الأول ميداني بإضافة نشر نقاط عسكرية تحديداً في مناطق التماس بين مناطق سيطرة الكرد و/أو الجيش السوري النظامي من جهة، وبين المجموعات الاسلامية المسلحة من جهة أخرى أهمها: (جبهة تحرير الشام) و(حركة نور الدين الزنكي) و(كتائب ابن تيمية)، في إشارة غير مباشرة إلى العلاقة اللوجستية بين المخابرات التركية وهذه المجموعات، ذلك أن الأخيرة قد أعلنت صراحة قبولها انتشار الجيش التركي في هذه المناطق. المسار الثاني سياسي بدأ يتبلور بشكل واضح عبر مؤتمرات أستانا السبعة، وتوج عملياً بالبيان المشترك للرئيس الأمريكي ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، حول سورية في الحادي عشر من الشهر الجاري على هامش قمة في فيتنام، ثم قمة سوتشي من الشهر نفسه جمعت الرئيس بوتين مع الرئيس السوري، تلاها بيوم واحد اجتماعه مع رئيسي إيران وتركيا، ذلك أن الأخيرة، في ظل تطور القضية الكردية بدعم من حلفاء أنقرة الغربيين، بدا أن ثمة مصلحة كبرى لها مع روسيا وإيران في إعادة ضبط الأزمة السورية بحل سياسي مقنع. لكن توافق الدول الثلاثة الضامنة هذه ليس بهذه السهولة، إذ إن السياسة الخارجية التركية لم تغير من نهجها، في محاولاتها الدؤوبة إضعاف دول الجوار خاصة في محيطها العربي.

بالخلاصة يمكن القول إن ما تقوم به تركيا في إدلب، هو استعمار بمعناه الحرفي؛ محاولة السيطرة على الأرض بما يشبه الاحتلال، ومحاولة الهيمنة التدريجية ثقافياً على المجتمع المحلي.

 

 

العدد 1105 - 01/5/2024