التعليم ودوره في تكوين الفكر النقدي

 لقد كان من المفترض أن يؤدي التعليم بصورة عامة والتعليم الجامعي بصورة خاصة، وكذلك البحث العلمي في كل فروع المعرفة، إلى تكوين الفكر النقدي، بمعنى القدرة على النظر والاختيار والحكم واتخاذ القرار في جميع مناشط الحياة. بيد أن ذلك لم يحدث، لم يستطع لا التعليم ولا التعليم الجامعي على تكوين فكر نقدي، فقد ودعا في البلدان العربية كلها الخلق والابتكار منذ زمن بعيد، وهما من يوم أن فعلا ذلك كفا عن أن يكونا عنصرين فعالين في تكوين (الناقد).

لقد كان مرجواً أن يحقق هذا التعليم هدفه الطبيعي بتكوين عقلية ناقدة بصيرة تحلل الحياة في شتى جوانبها، لتعيد تركيبها برؤية إيجابية تصل بها إلى صيغة ملائمة للعصر.. ولكن هذا الهدف أفلت من هذا التعليم منذ رضي بأن يخبئ رأسه في الرمال، ويحل (التلقين) محل التعليم، و(المعلومات) محل (المعرفة).. وبوسع كل أحد أن يعطي شهادته في ضوء هذه الأعداد الغفيرة الهائمة على وجوهها، والتي تُحشر حشراً في أماكن تنقصها كل المقومات اللازمة، والتي تكتفي في نهاية الأمر باستظهار قشور (المعلومات) فقط. إن البحث عن (العقلية النقدية) في هذا الجو، يعد ضرباً من خداع النفس، أو هو نوع من مطاردة السراب.

إن نظام التعليم إذاً محتاج إلى ثورة حقيقية، ذلك أن عناصر (التلقين) و(التكديس) و(الاستظهار) و(تقديس الامتحانات) قد كرست ونشأت حولها أسوار تحميها، منها عادات المتعلمين الضارة، ومصالح المعلمين، وأهداف السياسيين، وعلى ذلك أصبح (تفكيك) هذا الوضع القائم أمراً في غاية الصعوبة، ويزيد في هذه الصعوبة الحاجة إلى قوة قوامها في حدها الأدنى مبان تعليمية ملائمة، ومعلمون أكفاء بأعداد كافية، ومناهج صالحة للتكوين السليم، ورقابة دائمة مستنيرة على العمل، وفصل كامل بين الأهداف التعليمية والأهداف الشخصية، ومسائل أخرى كثيرة، لكن أمور التعليم لدينا حالياً هي في تيار معاكس لها كلية. وإذا أضفت إلى هذا أن الأجيال التي تتدفق إلى العمل بشكل دائم تكونت على النظام الحالي ذاته، تبينت أن معظم أسلحتك مغلولة، لأن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه.

لم تظهر إلى الآن أية نية جدية لفتح صفحة جديدة تغير المسار الحالي للتعليم، رغم أن الأمل في التغيير يبقى قائماً.

العدد 1105 - 01/5/2024