على هامش مجزرة حلب: البحث عن «نوتة» للتاريخ!

قد لا تعرفونه..!

قد لاتعرفونه، فقد غطى الدم وجهه، أنا أعرفه لأنه قال لي قبل أن يذهب إلى حلب آخر مرة:

– لن أنقل أوراقي إلى جامعة دمشق مهما حصل؟ لن أشبع من دمشق أبداً.. ولكن لم أشبع من حلب أيضاً!

قد لاتعرفونه، فقد رفض أن تشتري له أمه معطفاً أسود أنيقاً للشتاء، وقال لها وهو يحضن وجهها بكفيه الباردتين:

– ياست الكل.. اشترِ وقوداً لإخوتي لشتاء هذا العام، أما أنا فيكفيني لفحة الصوف التي نسجتها أصابعك!

لم تشأ أمه أن تطفئ حيويته، كانت تقول له:

– ابقَ في حلب، ولكن انتبه إلى نفسك!

وكان يبقى في حلب ولا ينتبه إلى نفسه!

كان يمشي في أروقة الجامعة وفي شوارع المدينة، في حاراتها.. يذهب إلى باب الأحمر قبالة القلعة ويشرب القهوة.. يذهب إلى باب قنسرين ويتناول إفطار الفول الطيب.. يذهب إلى الحديقة العامة ويركض فيها عند الصباح.. ولاينتبه إلى نفسه. ففي سورية، كما كان يقول، يرعاكَ الله، ويحصّنك التاريخ، ويكفيك دعاء أمك!

كان يلف لفحة الصوف على عنقه، ويضع كتابه تحت إبطه، ويمشي يغني لدفء البلاد وأطفالها وشمسها وغدها، وكان يقول لكل أصدقائه:

– أنتم لاتعرفون كم أشعر بالدفء وأنا ألف لفحة أمي حول عنقي!

وكان أصدقاؤه يرددون:

– يا لهذا الشاب كم يحب أمه!

قد لاتعرفونه.

فقد تلونت لفحة الصوف بدمه، وارتمت فوق وجنتيه وفمه لتخفي ابتسامته، تلك الابتسامة الواثقة بأن المعطف الذي أرادت أن تشتريه أمه نجا من المجزرة، وأن إخوته يشعرون الآن بالدفء!

أنا أعرفه، فبين صفحات الكتاب الذي كان معه، توجد (نوتة) للتاريخ، وهي ليست له، لأنه يدرس الهندسة منذ سنتين، وكنت أريده أن يدرس التاريخ.. هي لي، لي أنا.. قد لاتعرفون هذا.

طلبها مني عندما نجح في الثانوية العامة، وأحب أن يقرأها!

أتعرفون.. ماذا كان مكتوبا فيها؟!

قد لاتعرفون ماكان مكتوباً في (نوتة) التاريخ لأنها غرقت في دم الآخرين الذين تساقطوا حوله في جامعة حلب ذلك الثلاثاء الأسود!

أنا أعرف ما كان مكتوباً فيها.. سأقول لكم ماكان مكتوباً فيها:

(كان مكتوباً فيها: سورية تاريخ حضارة!).

لذلك كان يضعها دائماً في كتبه ويحملها إلى كل مكان، تماماً كما يفعل بلفحة أمه، لم يكن يخاف الموت في الجامعة والشوارع والحارات لأن سورية تاريخ حضارة.

أنتم لاتعرفونه، فأنا أعرفه جيداً.

مات يحلم.. وحول عنقه لفحة أمه و(نوتة) للتاريخ!

العدد 1104 - 24/4/2024