عندما نزلتُ فجراً إلى دمشق…!

نزلتُ فجراً إلى دمشق..كانت المدينة نائمة!

هل شاهدتم دمشق وهي نائمة؟ تشبه فتاة صغيرة تعبت من اللعب، فنامت على كرسي. لكن دمشق لم تكن تلعب، ومع ذلك كانت مثل فتاة صغيرة تنام بأمان.. وحدها المآذن كانت تصنع جلبة في السماء لأنها تدعو الله أن يحميها!

كانت دمشق مغمضة الأجفان، تهادت شوارعها في سكينة الليل، وتوقفت بعض نوافير البحيرات الصغيرة، وظلت ألوانها الخضر تتوهج وسط مشهد ليلي جميل يدفع الفنانين إلى رسمه.. ومن نوافذ بيوتها كان ثمة أضواء من نوع آخر، فالسوريون معروفون بأنهم يهوَوْن السهر، لكن الفجر أشار إلى أن كثيرين قد بدؤوا بالنوم. فدوائر الدولة تمضي عطلة الجلاء، ولن يحتاج كثيرون من الناس إلى الاستيقاظ باكراً..

كان ثمة حركة خفيفة عند بعض المحلات التجارية الصغيرة التي تنتشر في بعض المنعطفات، لذلك كانت دمشق تنتظر نهاراً هادئاً خفت الحركة فيه وتراجع الازدحام عن ساعات الذروة!

أما أنا فوصلت إلى ساحة يوسف العظمة.. هل تعرفون ساحة يوسف العظمة؟ ساحة من أجمل الساحات الرئيسية في دمشق، تغص بأبنية الدولة ومكاتبها ومؤسساتها، وبجزء كبير من ذاكرة المدينة والتاريخ، ومنها تتجه إلى جبل قاسيون عبر شارع الصالحية، وهو الاسم الدارج للمكان التاريخي المعروف ببوابة الصالحية. وقد سميت الصالحية بهذا الاسم لأن الاسم الحقيقي هو جبل الصالحين.. كم عاش الصالحون في دمشق، وكم مر فيها من العلماء والفقهاء والفلاسفة والرحالة والمؤرخون.. لم ينس أحد منهم جبل الصالحية.. وياعيني على جبل الصالحية اليوم وهو يتوهج بأنوار الفجر التي تحاول رفع الوسن عن بيوت المدينة!

ومن ساحة يوسف العظمة يمكنك أن تتجه نحو ساحة الحجاز، ومن ساحة الحجاز إلى سوق الحميدية عبر شاع النصر، وسريعاً تجد نفسك عند بوابة الجامع الأموي. وياعيني على الجامع الأموي! يحكي لك عن إيمان أهل الشام، ويأخذ بيدك وأنت راض وسعيد للتعرف على مقام يوحنا المعمدان، أي النبي يحيى، وعلى مقام الحسين، وعلى مئذنة العروس. وتتعرف سريعاً على مشهد من العصر الأموي الحافل بحضارة تعود إلى أكثر من ثلاثة عشر قرناً.

ومن ساحة يوسف العظمة تذهب إلى شبكة طرق تمتد نحو ركن الدين وبرزة وساحة العباسيين والقصاع، ومن هناك تأخذك الشوارع إلى الشمال حيث تقع حمص وحماة وحلب وطرطوس واللاذقية.. ومن ساحة يوسف العظمة يمكنك أن تذهب إلى شارع المعرض لتشاهد بردى وهو يستحم في صباح ربيعي، ويتدفق نقياً يغنّي لدمشق في نكباتها:

سلامٌ من صبا بردى أرقُّ

ودمعٌ لايكفكَفُ يادمشقُ

لكن كل ذلك يعيدك إلى قلب ساحة يوسف العظمة.. يا ألله! في قلب هذه الساحة، وكانت دمشق نائمة مثل فتاة صغيرة تعبت من اللعب فنامت على كرسي. يا ألله! في قلب ساحة يوسف العظمة، ودمشق نائمة مثل فتاة صغيرة تعبت من اللعب.. كان يوسف العظمة يحمل سيفه ساهراً بعينين واثقتين بوطنه.. واثقتين بغد هذا الوطن.. يذكّرنا أنه ترك في أعناقنا ابنته الصغيرة أمانة، قبل أن يتوجه إلى ميسلون. وكانت ابنته الصغيرة مثل دمشق فتاة صغيرة مغمضة الأجفان تنام بأمان وتحلم!

العدد 1104 - 24/4/2024