كي لا ننسى..محمود أبا زيد..الدكتور الإنساني المتميز الذي فقدناه

 إنه ابن درعا، هذه المدينة المغرقة في القِدم، والتي تعتبر مركزاً لسهل حوران الخصب، الذي كان قديماً يمدّ الإمبراطورية الرومانية بالقمح، والذي قدم العديد من الشخصيات الكبيرة التي لعبت دوراً تاريخياً على الصعيد العالمي آنذاك، في هذه المدينة التي ترك الاحتلال العثماني المتخلف عليها آثاره وبصماته الواضحة من فقر وعوز، وجاء بعده الاستعمار الفرنسي ليكرس هذه الآثار، ولد في عام ،1938 هذا الإنسان، الذي سيكتسب فيما بعد الحبّ والحترام من جمهور مدينته، ومن جميع أصدقائه ورفاقه المتوزعين في مناطق البلاد المختلفة.

 إذاً، في هذه المدينة السورية الجنوبية ولد هذا الطفل، من عائلة شعبية عانت من العوز والحاجة، توفي والده وهو طفل لا يتجاوز عمره الـ4 سنوات، وقد اضطر شقيقه الأكبر، وهو المناضل الشيوعي عبد الكريم أبا زيد، أن يعمل وهو يافع معلماً في إحدى المدارس كي يعيل أسرته، وكي يتيح لأخيه متابعة الدراسة.
يشبّ الطفل محمود، متشبعاً بتعاطفه مع جيله الذي حُرم جزء واسع منه من كل مقومات الحياة الكريمة، ومتطلباتها المادية والمعنوية، وكان من الطبيعي أن يقف إلى جانب المحرومين منذ يفاعته، وهو الذي عانى، شأنه في ذلك شأنهم، من الحرمان والحاجة، ويدفعه واقعه الصعب لتلمس طريقاً للخلاص، وللارتقاء بمدينته وبلاده إلى المستوى الذي يؤمّن لهما العيش الكريم
ومع ازدياد وعيه، لأسباب الفقر والحرمان اللذين يحيطان به، وبتأثير من شقيقه الذي كان قد عرف طريقه إلى أفكار الشيوعية، أخذ محمود ينجذب تدريجياً إليها، ويجد فيها حلاً لما كان يطمح إليه ويفكر به.

 في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ينضم الشاب محمود إلى صفوف الحزب، ومنذ ذلك الوقت يكرس حياته كلها لخدمة مُثل الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ونتيجة تفوقه في الدراسة أُرسل لدراسة الطب في مدينة لينينغراد السوفيتية في أواخر الخمسينات من القرن الماضي
وتخرج عام 1965 وعاد إلى إلى البلاد فعُيِّن طبيباً في مدينة أزرع، وترسله الدولة ليتابع تخصصه في المدينة نفسها، وفي مجال أمراض الدم، ويعود إلى البلاد مرة ثانية ليعمل أستاذاً في كلية الطب حتى وفاته في أوائل شهر آذار عام 1999.

لقد تعرفت على هذا الإنسان الرائع عام ،1964 أي قبل تخرجه بفترة قصيرة عن طريق شقيقه الذي كان يدرس علم الاقتصاد السياسي في جامعة موسكو، وزرناه أنا ومجموعة من الأصدقاء في لينينغراد عام ،1965 وتعرفنا إليه عن قرب، ولقد اكتشفنا تدريجياً آنذاك كم كانت تكمن في أعماقه القيم الإنسانية، وكره الظلم، وقيم التعاضد مع المظلومين، وكم كان وطنياً عميقاً، تشغل روحه مصاعب الوطن ومعاناته.

لقد أحببناه كثيراً، ولقد كان من الناس القلائل، الذين، وأنت تفارقهم، تشعر بأنك لن تستطيع أن تنساهم، وأنهم سيبقون في الذاكرة دوماً.

لقد ارتبطت لدى هذا المناضل المثقف النظرية مع الممارسة، وتعامل مع مهنته، وهو الطبيب الناجح والبارع، والذي كان يمكن أن يجني منها ثروة كبيرة، تعامل معها كمهنة إنسانية موجهة نحو الإنسان، ونحو تخفيف آلامه، ولقد سمي بحق طبيب الفقراء، كان يقوم بمساعدة كل من يقصده من أجل العلاج، ودون مقابل في أغلب الأحيان
ولقد كان يملك ضميراً حياً، وشفافاً، ويتحسس مصاعب الآخرين، وكان أيضاً يرفض التعصب، ويصغي للآخرين، ويقبل بالاختلاف، وعندما هزت الانقسامات صفوف الحزب الشيوعي وجد فيها إضعافاً لدوره في حياة البلاد، وغير مبررة من حيث الجوهر، وأن السبب الحقيقي في حدوثها هي العوامل الذاتية التي طغت على مصلحة الحزب، ومصلحة الفئات التي كان يفترض أنه يمثلها، وقد دفعه ذلك إلى حوارات واسعة مع الرفاق الذين كانوا يقصدونه، وكان يعمل من أجل إقناعهم بضرورة إيقاف التشرذم، وإعادة اللحمة إلى صفوف الحزب الذي يقبل بالتنوع والاختلاف، من أجل أن يقدم نموذجاً للشعب السوري الذي يجب أن يعيش موحداً رغم تنوعه الإثني والديني والطائفي والسياسي والفكري.

لقد عاش الشيوعي محمود أبا زيد من أجل هذه الأهداف، متواضعاً دون تصنّع، شريفاً، وصادقاً، وعطوفاً ومحباً للناس.

وعندما توفي بكته مدينته التي شيعته بحزن ومهابة، وبكاه أصدقاؤه ورفاقه، وطلابه الذين أصبحوا الآن أطباء، تاركاً، من خلال حياته بأسرها، نموذجاً للشيوعي الذي عاش من أجل الناس، ومن أجل المستقبل، ويجب أن لا ينسى.

 

 

العدد 1104 - 24/4/2024