الإيجارات.. عقود إذعان بالضربة القاضية!

ألقت الأزمة السورية ظلالها وتبعاتها السلبية على كل مكونات وفئات الشعب السوري، فلم يبق مواطن سوري واحد لم يتأثر سلباً بمفاعيل الكارثة، ولعل أخطرها على المجتمع السوري هو وضع المهجرين في الداخل السوري، أي في وطنهم الجريح، إذ كان في وضع الإيجارات جور وامتهان لكرامة المستأجر، وكان الصمت المطبق ديدن الحكومة على غلاء الإيجارات وعلى رفعها عند انتهاء مدة العقد، فوصلت أجرة البيت، أو الشقة إلى 90 ألف ليرة شهرياً في بعض المناطق السكنية.

القانون 20 عام 2015

خص هذا القانون العقارات المؤجرة للسكن والاصطياف والسياحة والعقارات المعدة لأعمال تجارية أو صناعية أو حرفية ومهن حرة وعلمية.. وفي الواقع لمسنا في ردود أفعال أصحاب العقارات شراهة لا نظير لها في مص دماء المعوزين والمهجرين والنازحين الفقراء، لكن ما ينبغي تسليط الضوء عليه هو الإيجار السكني.

العقد شريعة المتعاقدين.. فهل هما متعادلان؟

عقد الإيجار هو عقد بين طرف قوي جداً ، وطرف مسحوق جداً لا حول له ولا قوة. المستأجر لا يستطيع أن يناقش أبداً أصحاب العقار، وإلا فالشارع مأواه. ولا تشير أي فقرة في العقد المشترك إلى أن العقد شريعة المتعاقدين، وإذا أجرينا مسحاً لمئات الآلاف من العقود، نجدها تبدأ بكذبة كبرى هامة تتعلق بالتسعيرة الشهرية للعقار.

ما نريد معالجته هو كيفية تخليص وتحرير الإيجار من مزاجية أصحاب العقارات والمتحكمين بها، وهذا المطلب الوحيد العادل لملايين المهجرين، لكننا نجد غياباً تاماً لدور الدولة والجهات المعنية، ودون اكتراث لمردود هائل مادي مفوّت لحق الدولة في هذه العقود ذات الطابع التجاري البحت، فمالك العقار يتحكم بحياة المستأجر وعائلته، و(يضحك) على الدولة بقيمة إيجارية شهرية لا تشتري سندويشة شاورما.

دخل المواطن

متوسط الدخل للمواطن في أحسن أحواله لا يتعدى 100 دولار موزع على أفراد عاتلته. وقد هبطت القدرة الشرائية لليرة عشرة أضعاف منذ بداية الأزمة، وما كنا نرغب به هو تدخل الجهات الوصائية والتشريعية لضبط قانون الإيجار، لجهة ضبط نسبة الإيجار وفقاً لقيمة العقار، ومن خلالها يتم تحديد الأجرة بما يتناسب مع دخل المواطن، ومتوسط نفقاته الشهرية المعاشية، وهذا لم يؤخذ بالحسبان أثناء إقرار القانون، ففي البيع والشراء تؤخر ضريبة الأرباح وفق القوانين القديمة، وفي قيمة الإيجار تخضع لمزاج صاحب العقار، وفي كلتا الحالتين تخسر الدولة مورداً هاماً جداً يرفد خزينتها.

ملاحظات لابد منها

عند إبرام عقد الإيجار، يقوم المؤجر باستلام القيمة الإيجارية كاملة عن كامل المدة العقدية مسبقاً، ثم يبدأ برفع القيمة المادية بعد انتهاء مدة الإيجار، وهنا يقع المستأجر أمام خيارات قاسية جداً، إما الدفع أو الإخلاء، وتحمّل قيمة الرسوم وحصة المكاتب العقارية.. وأنا هنا لا أعمم، فهناك نسبة من المؤجِّرين، قد لا تكون كبيرة، لا تزال تحمل معاني إنسانية نبيلة وتلتزم بها في سلوكها.

ونسأل: لماذا لا يطول القانون مالك العقار؟ ولماذا لا تتدخل الدولة في تخمين السعر المثبت في العقد وهمياً؟ وبالمناسبة الجهات الوصائية والمختصة تعرف تماماً مقدار اللف والدوران في هذه العقود الكاذبة، فلماذا لا تصدر القوانين لصالح المهجرين الذين خسروا بيوتهم وممتلكاتهم، ورفضوا الخروج والهروب من وطنهم؟

هذه مشكلة تؤرق ملايين المهجرين، فمن يسعفنا بالحل، إذاً، إذا نأت الدولة بنفسها؟ فكل عقدة لها حل ولها طريقة تفكيكها.

لقد وصلنا إلى المقولة التي تقول مصائب قوم عند قوم فوائد! ولا بد من تدخل جهات حكومية مختصة تنظم علاقات الإيجار وتحل الأزمة، وتحد من المخالفات والانتهاكات بدلاً من ترك المشاكل والعقد تتفاعل وتنتج نتائج كارثية تتوسع إلى كل فرد وجماعة، فالإيجار يقصم الظهر، ويسبب تبعات مأسوية نفسية أو جسدية، فالمستأجر أصبح ضحية مرتين: التهجير مرة، والإيجار مرة ثانية، ولا يجد من يرفع السكين عن نحره، بسبب غياب المنظِّم الذي هو الدولة التي تخلت عن دورها الاجتماعي هنا، فقيمة الإيجار ارتفعت أكثر من 17 ضعفاً في العشوائيات، وفي المناطق المنظمة عشرة أضعاف، هذا ما ذكره الخبير العقاري عمار يوسف، فالإيجارات حالياً لا توجد لها ضوابط، بل هي خاضعة لسياسة العرض والطلب، فنزوات المالك هي الحكم والفيصل في الرفع والخفض، فمن غير المعقول أن يكون إيجار غرفة واحدة في سفح قاسيون يتعدى سقف راتب موظف محترم، وبدلاً من لأن يضمن القانون حقوق كلٍّ من الطرفين، فإن فيه، وفي آليات تنفيذه، من الثغرات ما يتيح للمكتب العقاري، أو لصاحب البيت، أن يتحكّم ويفرض ما يشاء من الشروط على المستأجر، ما يجعل العقد عقد إذعان، والمستأجر مضطرّ أن يرضخ لكل الشروط.

كلمة أخيرة

لا بد، إذاً، من تدخل الجهات المعنية في إيجاد حل جذري لهذه المشكلة، ولا بد من تكاتف الجهات الدينية أيضاً في نشر الوعي الإنساني والإيثار وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، بما يكفل تجاوز النكبات الاجتماعية والاقتصادية، وبما يضمن حق المستأجر في الاستقرار النفسي والمجتمعي بالبقاء في المنزل حتى تخطي الأزمة وعدم طرده ورميه للشارع، فالتشريع وجد لخدمة الإنسان وليس لسحقه، فالمهجرون هم سوريون، وليسوا مواطنين درجة ثالثة!

تجار الأزمة الذين انتشوا بفعل الحرب هم دواعش الداخل الذين يعطلون سبل إنهاء الأزمة، فلتُثبت لنا الدولة أنها لكل مواطنيها دون سواء.

العدد 1105 - 01/5/2024