آفاق التسوية السياسية في سوتشي

 تقتضي معالجة الملفات السياسية عامةً، والمعقدة، كالأزمة السورية خاصةً، التعامل مع الواقع بكل تفاصيله ومحدداته ومتغيراته؛ وهذا يشكل أحد الأسس الراسخة في السياسة. بناءً على ذلك، فإن فرص التسوية والحل تزداد كلما ازداد فهمنا لهذا الواقع المتغير، وكلما ازدادت دقة تقييمنا للعوامل المؤثرة فيه.

وهكذا فإن الابتعاد عن الواقعية في طرح المقاربات قد يؤدي إلى حلول غير مستدامة، أو تحويل الأزمة إلى اتجاهات ومسارات غير مثمرة وغير مفيدة؛ فلا يجوز في هذه الحال الوقوع في فرط التفاؤل أو فرط التشاؤم، بل لا بدّ من السير بخُطاً ثابتة ومدروسة، ومعالجة النقاط العالقة واحدةً تلو أخرى، حتى تتكامل أسس الحل وحيثياته، وتنتفي مواضع الاختلاف والجدل.

إن الجهود المبذولة لحل أي أزمة سياسية في بلد معين، تؤدي إلى توليد سلسلة من المتغيرات في الكيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي لدى ذلك البلد. وهذه المتغيرات يكون لها تأثيرات كثيرة، بعضها ينحصر مفعوله داخل البلد وبعضها الآخر يمارس مفعولاً على البلدان الأخرى عبر العلاقات الجارية عادة بين الأقطار. وبقدر ما يتعلق الأمر بالأزمة السياسية، فإن التأثيرات الصادرة عن هذه المتغيرات يمكن أن:

– تكون ذات مفعول مضاد للسير باتجاه الحل، وذلك عندما تجري المتغيرات في مجرى يوهن أواصر الحوار ويقمع حركة تبادل الأفكار بين القوى السياسية المختلفة.

– أو تكون ذات مفعول مواتٍ للحل، وذلك عندما تؤدي المتغيرات إلى تعزيز الحوار بين التشكيلات السياسية-الاجتماعية المختلفة.

– أو، أخيراً، تكون ذات مفعول حيادي تجاه الحل، عندما ينحصر التأثير داخل التشكيل، فلا يكون مضاداً للحل ولا مواتياً له.

في الحقيقة، لا بد من قراءة تصريحات المسؤولين الروس حول مؤتمر سوتشي وفقاً لهذه المفاهيم والمعطيات؛ وتحديداً ما صرح به المتحدث باسم الرئيس الروسي، ديميتري بيسكوف، إذ قال: (من غير المتوقع أن يتم في سوتشي وضع نقطة للتسوية السياسية، فهذا ليس صائباً).

في الواقع، ينطلق السيد بيسكوف في تصريحه هذا من إدراكه لتعقيدات الأزمة السورية، ومن إدراكه لأهمية الهدف المرجو، فليست الغاية هي الحوار من أجل الحوار، بل الغاية هي بناء سورية المستقبل. لذلك يحرص الروس في هذا المؤتمر على عرض جميع الأفكار، مهما بلغت درجة تناقضها وتعارضها، على بساط البحث والتمحيص، ومناقشتها باستفاضة للوصول إلى المشتركات التي ترضي الجميع. والعقلاء والخبراء يدركون جيداً أن الوصول إلى هذه المشتركات يحتاج إلى مراجعات ومراجعات لكي تكون الأسس التي تبنى عليها سورية المستقبل متينة وراسخة، وقد يتطلب الأمر عدة جولات من الحوار.

إضافة إلى ما سبق، يدرك المسؤولون الروس جيداً أنه لا يستطيع حل الأزمة السورية سوى السوريين، فدورهم كرعاةٍ للمؤتمر سيقتصر على التنسيق والتنظيم والدعم المعنوي، وهذا ما عبّرت عنه السيدة ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، فقد قالت في موجزها الصحفي الأسبوعي، بتاريخ 25 كانون الثاني الجاري: (لا تقوم روسيا بإجراء هذا المؤتمر حباً بالفنون، وليس من أجل إحراء فعالية جميلة، فنحن لدينا الكثير من الفعاليات الجميلة. نحن نعطي إمكانية ونقدم فرصةً للناس، للقوى السياسية، للسياسيين، للمعارضين، لممثلي السلطة القائمة، لتحديد مستقبلهم. لذلك فنحن نقدم البنية التحتية والدعم السياسي وجميع الشروط الضرورية لذلك). لذلك كانت روسيا حريصة دائماً على أن يكون تمثيل التيارات والقوى المجتمعية منطقياً وموضوعياً؛ فحول المشاركة الكردية، التي اكتنفها الكثير من التأويلات والقيل والقال، قالت السيدة زاخاروفا، في موجزها الصحفي: (يمكنني القول بأنه يوجد العديد من ممثلي القوى السياسية الكردية المختلفة، الذين أكّدوا مشاركتهم. وكما قال لي الخبراء، هذه المشاركة تتناسب مع عدد الأكراد في سورية، وبالتالي يعتبر تمثيلاً كافياً).

بناءً على ما سبق، فإننا نرى أن الجهود الروسية المبذولة لتجميع أكبر عدد من ممثلي القوى السياسية السورية في سوتشي، بمختلف مشاربها الفكرية والعقائدية، هي جهود مواتية للتسوية، ونقطة الانطلاق الصحيحة باتجاه الوصول إلى حل سياسي وطني يُرضي جميع السوريين.

علاوة على ذلك، فقد دُعيت بعض الدول العربية وغير العربية بصفة مراقب، كما أكدت موسكو أن التمثيل الدولي سيكون واسعاً، لذلك فإنه يمكن النظر إلى المنظمات الإقليمية والدولية والدول المراقبة كأطراف ذات مفاعيل إيجابية أيضاً، إذ يشكل وجود هذه الأطراف حافزاً للسوريين على الحوار وبذل الجهد للوصول إلى الحل المناسب.

أدركت الولايات المتحدة الأمريكية، على ما يبدو، أن هذه الانطلاقة ستكون مثمرة وواعدة، فسارعت إلى اتخاذ إجراءات (عاجلة)، بغية إحداث تأثيرات معاكسة، ولقد تجسدت هذه الإجراءات بخطوتين بغيضتين:

– إصدار وثيقة مجموعة واشنطن، التي تبين أنها تتناقض مع القرار 2254 وتقوّض الحل السياسي.

– مقاطعة هيئة التفاوض السورية لمؤتمر سوتشي، على الرغم من أنها اجتمعت مع وزير الخارجية الروسي بتاريخ 21 كانون الثاني الجاري.

وبصرف النظر عن جميع التأثيرات، المواتية أو المضادة أو الحيادية، يشكل مؤتمر سوتشي فرصة فريدة، خاصة أن راعية هذا المؤتمر هي دولة نثق بها وبعلاقتها مع الدول العربية، وتاريخها ودعمها للقضايا العربية خير دليل على ذلك؛ إلا أن الكرة الآن في ملعب السوريين فقط، فالأزمة أزمتهم وحدهم، ولا سبيل لإحداث تأثيرات إيجابية في مسارها سوى بالحوار الجاد والبنّاء، الذي يجب أن يؤدي إلى إصدار وثيقة وطنية جامعة لكل السوريين، تقود إلى بناء سورية المستقبل التي نحلم بها جميعاً.

العدد 1105 - 01/5/2024