قامات سوريّة تنكس أعلامها!

هناك من يخاف على روحه، وهناك من يخاف على بيته، أو أسرته أو أطفاله، وهذا النوع من الخوف طبيعي، فهو نوع من الأمان الاجتماعي، الذي يؤسس له الإنسان طويلا، فيتوّجُهُ في نهاية الأمر بالخوف على وطنه..

إضافة إلى هذه الأنواع من الخوف، هناك خوف على العقول.. وأنا لا أعرف لماذا تدافعت الأسماء دفعة واحدة إلى رأسي، ففي الحقبة الأخيرة فقدتُ أنا في علاقات المعرفة الشخصية قامات بارزة، تعتبر من أهم العقول السوريّة، كنت أنظر إليها بإعجاب واحترام نتيجة العلاقة معها، رغم أني لا أتفق مع أكثرها إلا في حب سورية، فأحسست في فقدانها أنني أخاف على هذا النوع من القامات، فلا شيء جديد يولد على هذا الصعيد، لتظهر قامات مثلها!!

لاحظوا من توفي في العقد الماضي، وما قبله بسنوات:

موفق العلاف، جورج طرابيشي، الدكتور غسان الرفاعي، خالد بكداش، رفيق الجويجاتي، وصال فرحة بكداش، إلفة الإدلبي، ياسين رفاعية، الدكتور جمال الأتاسي، الشيخ أحمد كفتارو، الشيخ علي الجمال،، ممدوح عدوان، فاتح المدرس، خلدون المالح، صباح قباني، الشيخ رجب ديب، مراد يوسف، أغناطيوس الرابع هزيم، يوسف الفيصل، ممتاز البحرة.. وغيرهم كثيرون!

انتبهت للأمر، فهم تشكيلة منوعة من الاتجاهات والانتماءات والسلوكيات، تعرفت عليها بحكم مهنتي وعلاقاتي الشخصية، فاستعدت مقالاً قديماً كتبته في صحيفة الحياة عن فقدان القادة السياسيين، ووجدت نفسي أشعر بنوع من النزيف لا يعوضه دم جديد..

دفعني هذا النوع من الفقد إلى أن أتصرف أحياناً كطفل صغير عندما أرى بعض الباقين على قيد الحياة، فأصافحهم بحرارة، وكأني أتمسك بهم، وقد حدث هذا مع الدكتور الطيب تيزيني، عندما شاهدته يمشي في أحد شوارع دمشق مع مجموعة من أصدقائه، وبينهم أصدقاء مشتركون، فوقفنا على قارعة الطريق وتحدثنا، فقلت له:

ــ سمعت أنك تنوي السفر، أرجوك لا تسافر.. لم يبق عقول في سورية!

فرد بعفوية مفهومة:

ــ ولكن لا أحد يسمعني هنا! وأضاف:

ــ لا أحد يسمع أبداً..

أتذكر هذه الأشياء، وأنا أتحدث عن هواجس أخرى تتعلق بتراثنا الأخلاقي، فقد تجاوزنا في التطور الاجتماعي مراحل كثيرة، وتحولت الشخصية الإنسانية تلقائياً إلى (لابتوب) أو (جهاز خليوي)، وكل هذا التطور لم يغنِ عن أهم قاعدة تعلمناها من آبائنا وأجدادنا جيلا بعد جيل اسمها ((الوفاء))!

نحن لسنا أوفياء لهؤلاء، ولو كنا أوفياء لهم لاستعدنا ما قدموه من سياسة وفن وأدب وفلسفة.. ووضعناه على قاعدة التراث القابل للنقاش والاختلاف، لعل الاختلاف يتفاعل ويزهر في مرحلة صعبة مثل هذه المرحلة التي نعيش فيها..

هناك شيء مخيف فعلاً بدأ السوريون يتحدثون فيه، وهو غياب هذا النوع من المرجعيات، وغيابه في المستقبل القادم يعني ظهور مرجعيات من نوع جديد لم يألفها السوريون من قبل، نوع قد يكون مَرَضياً، أو عُنفياً، يغذّيه المال والسلاح والطوائف والخارج، فيما يكون الداخل مأزوماً إلى أبعد حدود الأزمات، وهي العقم عن توليد جيل جديد من القامات نتفق أو نختلف معها..

القامات السورية، تنكس أعلامها، وتمضي، ولا يأتي خلفها إلا القليل، اللهم إلاّ تلك المصنوعة من ورق!

ملاحظة: نشرت هذه الزاوية في موقع بوابة الشرق أوسط الجديدة.

العدد 1107 - 22/5/2024