قرن الصراعات المعقّدة …

قرن الصراعات المعقّدة
#العدد823 #بقلم_خليل_البيطار #جريدة_النور

هل انتهى زمن الاستعمار والاستتباع فعلاً، منذ صدور إعلان من الأمم المتحدة في النصف الثاني من القرن الماضي يشير إلى أن الاستعمار القديم انطوى إلى غير رجعة؟ وعد المحللون أن العهد الدولي الضامن لاستقلال الدول وسيادتها لن ينتهك، وظن واهمون عديدون أن الحروب الكبرى لم يعد لها مبرر، وأن عقلية التفوق العنصرية اندثرت مع هزيمة النازية ومحاكمة جنرالاتها عام 1945 وما تلاه.
واللافت أن فلاسفة معادين للحرب، شكلوا محاكم لمقاضاة مجرمي الحروب، ومنهم برتراند راسل الذي عارض سياسة بريطانيا الخارجية عام 1918، وسجن بسبب ذلك، كان قد أصدر كتاباً عنوانه (أخلاق الحرب) أشار فيه إلى أربعة أنواع من الحروب، ثلاثة منها غير أخلاقية، وبرر النوع الرابع الآتي من حضارة متفوقة قادرة على فرض أوضاع فضلى على مناطق غير متحضرة.
ومن يتابع الحروب المعقدة والاجتياحات واحتلال أراضي الدول ذات السيادة بالقوة، منذ نصف قرن، وإثارة التوترات والنزاعات الدورية والحروب بالوكالة، من حرب 1967 في الشرق الأوسط، وحرب فيتنام وأفغانستان، والحرب العراقية الإيرانية، وتفكيك الاتحاد السوفييتي السابق، مختلف تقنيات الحرب الخفية والمعلنة، وتفكيك دول عديدة، واحتلال أفغانستان والعراق، والحروب الأهلية والحدودية في إفريقيا، ودعم الأنظمة الاستبدادية، ونهب ثروات الشعوب، جرت كلها بدعاوى نشر الحرية وإشاعة الازدهار، والدفاع عن حضارة متفوقة ضد كل تهديد قادم من الشرق أو الجنوب: أي من دول تعزز حضورها على الساحة الدولية، وتسعى حثيثاً لتحسين معيشة شعوبها، مثل روسيا والصين، ودول تستخدم حقها المشروع بموجب ميثاق الأمم المتحدة في إزالة آثار التركة الاستعمارية، وفرض سيادتها على أراضيها وثرواتها. والدمار الذي نتج عن هذه الحروب تفوق خسائره البشرية والمادية أضعاف خسائر الحرب العالمية الثانية، وما حروب الإبادة والمجازر ضحايا التعذيب والسجون السرية، وتدمير مدن وثقافات وإثنيات، وحركة النزوح وتهريب البشر غير المسبوقة، وتخليع البشر من أراضيهم وسرقة العقول، إلا جزء يسير من (منجزات الحضارة الغربية الأمريكية المتصهينة المتفوقة).
وإن كان راسل قد غلف نظرته إلى حضارة بريطانيا المتفوقة بطريقة فيلسوف لا يبرر حروب الاستقواء واستخدام القوة المفرطة ضد البشر المسالمين، ولكن عقلية التفوق لم تغادره، فكيف نقرأ صعود اليمين المتطرف في دول لها الكلمة الفصل في السياسة الدولية (مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا وهولندا وفرنسا)؟ أليس هذا دليلاً على أن مظاهر العنصرية والاستعلاء ونوستالجيا العودة إلى (المستعمرات السابقة) والحدائق الخلفية، وممتلكات ما وراء البحار، مازالت متمكنة في الأذهان؟ وكيف نقرأ طرائق إدارة الأزمات والتعامل مع الملفات المعقدة، والدفع باتجاه تغييرات درامية للخرائط وتوضّع البشر، والانسحاب من منظمات دولية ذات صلة بحقوق الإنسان ونزع الأسلحة وحماية البيئة؟
ألا يشكل ذلك نسفاً للمواثيق الدولية، وتمهيداً لتفكيك الدول، بل لتفكيك منظمة الأمم المتحدة نفسها، وإعادة الاعتبار للإمبراطوريات المتنافسة على قارات ودول (بلا حضارات) والساكنون فيها ليسوا شعوباً، بل عمالة تحت الطلب، وكل فرد مشروع مهاجر مستعد للاندماج بحضارتهم المتفوقة؟!
وأرى أن العقلية المتفوقة ذات الطبيعة العنصرية تستشعر التهديد دائماً، وهذا الاستشعار باعث لنزعتها العدوانية المتوحشة، وهي توظف تقنياتها المتقدمة وأسلحتها واستراتيجياتها لشرعنة حروبها، وتلقي باللائمة على مسببي الكوارث ومشعلي الحروب، وتغسل يديها من آثار جرائمها المرتكبة. وقد تسنى لي أن أزور مدينة ستراسبورغ قبل عقد، ومعنى اسمها (مدينة المعابر والجسور) و(عاصمة أوربا) وهي عاصمة الإلزاس المقتطعة من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومقر البرلمان الأوربي، ورأيت بأم عيني في إحدى ساحاتها تمثالاً للجنرال كليبر وهو يدوس بحذائه العسكري رأس امرأة فرعونية، ومعروف أن كليبر حل محل نابليون الذي اجتاح مصر، وردّته أسوار عكا مخذولاً، ثم جرى اغتيال كليبر على يد السوري سليمان الحلبي، وقد عدت من زيارتي لفرنسا مثقلاً بمهانة تشبه ثقل المهانة التي تسببها النظرة الاستعلائية للحضارة المتفوقة إلى أهلي وطني.
وإن كان القرن العشرون كما رآه راسل قرن الصراعات الدولية بامتياز، فإني أرى القرن الحالي قرن الصراعات المعقدة المتوحشة، ورغم قسوة هذه الصراعات وكوارثها، فإن تجارب الشعوب الغنية قادرة على إبداع أساليب مواجهة لإبعاد أخطارها ومحاكمة مدبريها ومشعليها وتجار أزماتها، وإعادة العالم إلى تحضّره وإنسانيته وتوازنه.

العدد 1104 - 24/4/2024