أبواب الخروج الممكن من …

أبواب الخروج الممكن من المأزق الثقافي العربي الراهن
#العدد823 #بقلم_يونس_الصالح #جريدة_النور

لا يستطيع العقل أن ينتج فكراً إذا لم يجد غذاءَه الكافي من المعرفة، ففي مثلث العقل- الفكر- المعرفة، تمثّل المادة المعرفية قاعدة المثلث، وما لم تتوافر هذه المادة أمام العقل، فلن ينتج من فكر غير تصوراته وتخميناته الذاتية. وليس مصادفة أن الغالب على الثقافة العربية هو الأدب والشعر والتراثيات والإيديولوجيات السياسية، مقابل ضمورٍ في المعرفة العلمية وفي العلوم الاجتماعية.
ذلك أن الجانب الشعوري والرغائبي والتأملي البحت، في فكرنا العربي، وهو جانبه المتضخم، لم يستند إلى القاعدة اللازمة من البحث المعرفي في جوانب الواقع العربي ماضياً وحاضراً، وذلك ما جعل منه تركيباً ذهنياً يفتقد قنوات التواصل مع الواقع تأثيراً وتأثُّراً.
ومن تجارب عديدة مع الوعي العربي السائد، يمكننا التأكد من أن هذا الوعي العام في مجمله مازال غير قادر على التمييز بين التشخيص الوصفي الموضوعي للحالة، والحكم القيمي أو الذاتي عليها، فالخطاب في عرف هذا الوعي إما مديح أو هجاء، تعظيم أو تحقير، أما الوصف من حيث هو تشخيص موضوعي لا يعبر عن الرغائب وإنما عن الوقائع، فحظّه من القبول قليل وضئيل، خاصة إذا اقترب من الذات. غير أن النهضات الحقيقية في حياة الأمم لا تبدأ إلا بثورة معرفية موجّهة، قبل كل شيء، إلى فهم الذات (الذات الجماعية للأمة) وإعادة اكتشافها ونقدها، وإن العجز عن تحقيق هذه الثورة العلمية النقدية يساوي التخبط المزمن في المأزق العربي الراهن، إذ يعاني العرب التباساً خطيراً في الوعي بين التصور والواقع، وبين الإيديولوجيا الحقيقية، والرغبة والإمكان. وباختصار: بين ما هو كائن.. وما يجب أن يكون.
لقد ظلت الحركات والتيارات العربية على اختلافها تقدّم الإيديولوجيا على الحقيقة، بل وتلوي أعناق الحقائق في سبيل (تأكيد) إيديولوجيا الأزمة المزمنة!! وكثير من نتاج الفكر العربي يدخل في هذا الباب.
غير أن الإيديولوجيا الفاعلة في الواقع، والمغيّرة له، هي تلك الإيديولوجيا التي تمثّل ثمرة ثورة معرفية علمية تسبقها وتمهد لها. وليس صحيحاً أنه لا ثقافة بلا إيديولوجيا، وإنما الصحيح أنه لا إيديولوجية فاعلة ومتماسكة دون ثورة ثقافية معرفية تتقدمها، وتقودها، وتقرّبها من أفق الحقيقة، بقدر ما يستطيع الوعي الإنساني الاقتراب من الحقيقة، وبقدر ما تستطيع الإيديولوجية الإنسانية، بالتالي، التلاؤم مع تلك الحقيقة والالتزام الخلاق بها.
وباختصار شديد، سأحاول حسب تصوري إيجاز أهم عناصر هذه القضية المؤرقة لنا جميعاً، ومكوّناتها، وذلك بطرح السؤال التالي، الذي أرى أنه سؤال الأسئلة في اللحظة العربية الراهنة: كيف نبدأ عصر تنوير عربي، ويجري تصحيح المسار الراهن المتأزم للثقافة العربية في علاقتها بواقع المجتمع والعصر واحتياجات الأمة؟ باعتبار أن النهضات الكبرى الفاصلة في تاريخ الأمم لابد أن تبدأ بعصر كهذا.
وفي هذا السياق إذاً، لابد أولاً من إعادة النظر في الأسس والمنطلقات والمسارات العامة للأمة، وتغدو هذه المسألة أكثر من ضرورية في أزمان النكبات والتراجعات المزمنة، أمم وحضارات ودول عدة لم تستطع تجنّب الانهيار، لأنها لم تملك فضيلة الرغبة في إعادة النظر في منطلقاتها في الوقت المناسب، وعندما داهمتها الأحداث اضطرّت لذلك بعد فوات الأوان الذي بدأ يفوتنا نحن العرب، ما لم نبادر إلى سرعة تحرك الفكر لطرح الأسئلة الضرورية والجوهرية بشأن أسس حياتنا.
لنزحزح عبء الأجوبة الجاهزة المكرورة، ولنبدأ بطرح الأسئلة الكبرى والضرورية التي تطرحها أيّ نهضة أصلية. لنبدأ بطرح الأسئلة ولنسمح بها ولا نخشاها، حتى لو لم تكن لدينا إجابات جاهزة، فأسئلة النهضات الجيدة شرطها ألا تكون لها إجابات جاهزة، لكنها بطبيعتها حافزة على إجابات مقبلة تغير التاريخ. فلنتحرّر، ولو قليلاً، من عبء الأجوبة الجاهزة الكثيرة، التي تملأ رؤوسنا وتمنع عنها النور والهواء، ولنستنشق هواءً جديداً! لنبدأ بطرح الأسئلة، لكن بعد أن نعرف كيف نطرحها وإلى أي أعماق فينا نوجهها.
فإن نعِش في غابة مفتوحة من الأسئلة الحائرة خير من أن نبقى في حصن من الأجوبة العقيم المكابرة. وغنيّ عن البيان أن طرح أسئلة كهذه يحتاج إلى مناخ أهم مقوماته حرية الرأي، وسعة الصدر، ومرونة الفكرة، والرغبة في الحوار، واحترام الرأي الآخر، وهي وصفات نكرّرها كثيراً في خطابنا العربي الراهن، لكن لا أعلم متى سنطبقها، فنحن أمة مازالت تعاني ازدواجية كبرى بين الكلام والفعل، وهذه الازدواجية، من أكبر عوائق النهضات الأصلية في حياة الأمم، لأن هذه النهضات لا تسلم قيادها لمن لا يحترم مقاله فعله ولا ينسجم فعله مع مقاله.
ثانياً – وتبدأ عصور التنوير بالنظر إلى التراث والحياة والعصر بمنظار جديد، وبعين الدهشة البكر، وبلا وسطاء ولا شرّاح، ولا هوامش، بعد تقديم كل الاحترام للشرّاح وهوامشهم.
تبدأ بإعطاء الماضي والتراث لوناً جديداً، وبعداً جديداً، وعمقاً جديداً، فتنطلق الأمة بتراثها شابّة من جديد. هكذا بدأت النهضة الأوربية في عصرها، وهكذا أوشكت النهضة العربية الحديثة أن تنطلق في جيل الرواد، قبل أن تُجهَض. في كل تنوير أصيل نهضوي جرى التحرر من الوسطاء والأوصياء- الفكريين والشرّاح والهوامش، وحلّت النظرة البكر المبدعة محلَّ التلقّي والتلقين، فالتراث لا يفسَّر بالتراث اللاحق، والأصل لا يفسَّر بالفرع، والدين لا يفسَّر بالمذهب، لكنه يفسَّر برؤية الإنسان الجديد المعاصر واحتياجاته لذلك التراث الأصلي في مصادره الأولى، كما أن العصر وقضاياه لا يؤخذ كما هو لدى المعاصرين الآخرين، لكنه يؤخذ حسب المنظار والمعيار المستقل للإنسان المتلقي، هكذا تلقّى الإنسان الأوربي في بدايات نهضته العصر الحضاري الإسلامي المتقدم عليه، واستفاد منه دون أن يفقد هويته الأوربية، وهذه حقيقة جديرة بتأمّلنا العميق، إذ كيف يُخشى علينا من المؤثرات الأوربية بينما امتصّت أوروبا- النهضة الكثير من عناصر حضارة العرب الإسلامية، دون أن تتأسلم، فلماذا يُخشى علينا أن نتغرّب؟ وبالمثل- وهكذا من قبل، تلقى المسلمون الأوائل جديد الآخرين من أهل الحضارات القديمة دون أن يفقدوا إسلامهم، هكذا تتلقى اليابان اليوم العصر الحديث وتزداد يابانيةً في الوقت ذاته، وكذلك الصين.
إذاً، التراث والعصر حقيقتان لا يمكن إلغاؤهما، لكن يمكن إلغاء عبودية الإنسان العربي المعاصر لهما معاً، بنظرته إليهما نظرة ناقدة مستقلة، يكون هو معيارها، دون أن تختفي شخصيته خلف صيغ التوفيق المتهافتة بينهما، كما هو طابع الفكر العربي والثقافة العربية في كثير من الجوانب.
ثالثاً – لا تؤسَّس نهضات جديدة على جزئيات ومدارس فرعية وموجات عابرة في المعرفة ينشرها هواة ثقافة. إنه من المحال تأسيس نهضة ثقافية جديدة على تفرّعات المذاهب الفنية وجزئيات المدارس الفكرية والأدبية، سواء كانت هذه الجزئيات والفروع مستقاة من الخارج المعاصر، أو من الداخل التاريخي.
لا بد من تخطّي ثقافة الموجات، المؤقتة العابرة المتلاشية كزبد البحر، باستشراف الأصول المعرفية الرئيسية في التراث وفي العصر، واستيعابها، وهضمها وتمثّلها بالكامل، ثم الانتقال، لمن شاء الاختصار، إلى تفرّعاتها وجزئياتها، ولكن بعد التمكن من أصولها أولاً وقبل كل شيء.
فبين مرحلة وأخرى في ثقافتنا الحديثة، وحسب المتغيرات الخارجية والمتقلبات الداخلية، تطل علينا موجات مؤقتة متباينة ومتضاربة من المدارس والاتجاهات، وأكاد أقول (التقليعات) والأزياء الفكرية في الصالونات الغربية أو في أوساطنا الداخلية.
ففي فترة: موجة الواقعية الاشتراكية، وفي فترة تالية: موجة الوجودية السارترية، وفي فترة ثالثة: موجة السريالية واللا معقول والغموض والتعكيبية والدادية، وفي فترة رابعة: موجة البنيوية واللسانية وهكذا.
هذه كلّها تطورات فرعية تالية متأخرة في سياق الحضارة الأوربية، جاءت في وقتها التاريخي هناك كإفرازات طبيعية أو كعوارض مرضية، لكن ماذا أفدنا نحن منها؟ وماذا بقي لنا منها بعد هذا الانشغال بها عن قضايانا اللصيقة بنا والأكثر إلحاحاً؟
هذه تفرّعات لأصول كبرى صدرت عنها، فهل تمكنّا من تلك الأصول قبل فروعها؟ هل تعمّقنا جدلية هيغل قبل قراءة الترجمة العربية غير الناجحة للمادية الجدلية؟ هل تعمّقنا وجودية نيتشه وهيدجر قبل متابعة السلوكيات والروايات الوجودية لسيمون دي بوفوار في الحي اللاتيني بباريس؟ هل قرأنا وتعمّقنا (ثروة الأمم) لآدم سميث ومبادئ الفكر ا لليبرالي الأخرى، قبل الإعجاب بالمظاهر السطحية والاستهلاكية للرأسمالية والاقتصاد الحر، هذه المظاهر التي تتهالك المجتمعات العربية، غنيّها وفقيرها، على قشورها دون التنبّه لجذورها وشروطها المعرفية والمجتمعية والحضارية؟
وبالنسبة لمصادر التراث، هل تعرّفنا بصورة متعمقة أصول القرآن، قبل الدخول في التفريعات والمذاهب الفقهية والكلامية المثالية؟ وهل تعرّفنا المعتزلة بشكل حميم قبل نشر الفكر الأشعري المتفرّع عنهم؟ وهل تمثّلنا الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة الإسلاميين، قبل الدخول في ردود الغزالي عليهم؟ أقصد هل عبرنا إلى الينابيع قبل الروافد، وإلى المتقدم المتأصل قبل المتأخر المتفرع؟!
نوجز إذاً هذه الأطروحة الثالثة: لابد لعصر تنوير جديد من تجاوز ثقافة الموجات العابرة، إلى ثقافة الأصول الفاعلة في قضايا العصر، أو في مسائل التراث، لنؤسس نحن أصولنا الجديدة. وعلينا التنبه إلى أن الأصولية السائدة حالياً، إن صحّت تسميتها بهذا الاسم، هي أصولية المتأخر المتفرع، لا أصولية التأسيس والابتكار والانطلاق، فلابد إذاً من الأصول لتخطّي الأصولية.
هذه مجموعة مفاهيم فكرية أساسية وجوهرية، على الثقافة العربية حسب رأيي أن تتوقّف أمامها في اللحظة التاريخية الراهنة، إن أرادت أن تكون عاملاً فاعلاً في استنهاض الأمة من جديد، في هذا العصر الذي لا يتساهل مع الثقافات المتجمدة وغير القادرة على مراجعة ذاتها وتشخصيها ونقدها.

العدد 1104 - 24/4/2024