الاتحاد الأوربي غير …

الاتحاد الأوربي غير المتحد.. يفاوض الإيرانيين أو يتفاوض مع الإيرانيين؟
#العدد823 #بقلم_أنطون_شاربنتيني #جريدة_النور

دعيت مرّةً إلى قناة (فرانس 24) للتكلم عن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي الإيراني. في نهاية الحلقة قلت إن ترامب سيعود ويفاوض مع الإيرانيين من خلال الأوربيين، خصوصاً أن هؤلاء هم بحاجة ماسة من الناحية الاقتصادية إلى السوق الإيرانية، وفي الوقت عينه يخشون الدخول في حروب عالمية لصالح أمريكا وإسرائيل.
ترامب فعل فعلته، انسحب من الاتفاق النووي 5+1، أعلن الحرب على إيران وحلفائها وفي الوقت عينه على أوربا، تاركاً لهذه الاخيرة المهمة الشاقة وهي المفاوضات مع إيران، التي هي أيضاً بشكل ما لمصلحة أمريكا.
الرئيس ترامب يعرف تمام المعرفة أن قرار أوربا ليس حراً، وهي لا تستطيع أخذ القرارات التي تحلو لها إن كانت لا توافق بالحد الأدنى المصالح الأمريكية.
في هذا تكمن هيمنة أمريكا على القارة العجوز. هذا الشيء كان واضحاً عندما قررت الدول الأوربية بقاءها في الاتفاق النووي الإيراني، لكن جرى انسحاب فوري لشركاتها من السوق الإيرانية على غرار شركة توتال للنفط، وبيجو للسيارات. هذا الشيء يترجم الخضوع الطوعي الأوربي للأوامر الأمريكية. فكل ما بعد ذلك هو محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فترامب يتعامل مع الأوربيين كعبيد خاضعين كلياً لسيدهم، يملي عليهم شروطه وهم ينفذون. المشكلة ان الأوربيين لا يستطيعون إلا التماهي مع المطالب الأمريكية، بسبب هيمنة المحور الصهيو-أمريكي عليهم في المجالين السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، خارجياً وداخلياً، ما يحدّ في الوقت عينه من المناورات لحماية مصالحهم.
عملت اللوبيات الأمريكية الصهيونية منذ سنين طويلة لإيصال أزلامها إلى مفاصل دقيقة في المنظومات السياسية الأوربية. هؤلاء جاهزون في أي وقت لقلب الطاولة على رؤوس الجميع إن حاولت أوربا الخروج عن السياق الأمريكي أو التخلف عنه أو التمايز الكلي معه. أما بالنسبة لإسرائيل فهي أصبحت عبئاً ثقيلاً على كاهل الأوربيين، لكن العلاقة هي على غرار علاقة أوربا بالولايات المتحدة الأمريكية.
يجب التنبيه أيضاً أن هناك حرباً خفيّة قائمة منذ وقت بين الأوربيين أنفسهم. وهو ما يعطي الفرصة لترامب للتدخل أكثر فأكثر في الشأن الأوربي من خلال الأشخاص الذين ذكرناهم وبعض اللوبيات العاملة لصالح الإدارة الأمريكية.
الخلافات السياسية القائمة بين الأوربيين تترجم على سبيل المثال في الخلاف القائم منذ سنين بين فرنسا وألمانيا اللتين تتنافسان على قيادة الاتحاد الأوربي.
أما بالنسبة للدول الأوربية الأخرى فهناك خلافات عديدة، منها سياسية ومنها اجتماعية. الخلاف هو أيضاً حول الحروب القائمة في الشرق الأوسط، العلاقة مع إيران، نظرتهم إلى الإسلام السياسي، ومشكلة المهاجرين. فضلاً عن المشاكل الاقتصادية التي قد تقسم ظهر الاتحاد الأوربي.
فإن نظرنا عن قرب إلى علاقة دول الاتحاد الأوربي بعضها بالبعض الآخر، نرى جيداً أن هناك عدم تجانسٍ وعدم توافق، وأن كل منظومة سياسية تفكر وتعمل أولاً لمصلحتها، ما يضع الفكرة الأوربية على المحك.
يجب أن لا ننسى، هناك سياسيون أوربيون منتخبون كنواب في البرلمان الأوربي وفي الوقت عينه هم يناهضون هذه المنظومة السياسية ويعملون على تفكيكها، أو على الأقل يدعون إلى ذلك، ما يخلق تناقضاً كبيراً يضعف الاتحاد الأوربي ويجعل أبوابه مفتوحة على مصراعيها بوجه عدة خروقات خارجية، منها الأمريكية.
أما بالنسبة للشعوب الأوربية، فهي تعي أن هناك مشكلة كبيرة، هيمنة خارجية، ومنحى سياسي منحرف، ومشاكل اقتصادية واجتماعية قد تتفاقم في المستقبل، لكن ليس بيدهم الوسائل والطرق للتغيير، فضلاً عن منطق المعارضة الأوربية الرجعي وغير المجدي.
فإن رأينا على سبيل المثال كيف تتصرف الأحزاب والنقابات، في بعض الدول على غرار فرنسا، فإننا نعي تماماً الدور غير الفعال، الذي لا يقلق السلطات السياسية. فما بالنا بمقاومة الهيمنة الصهيو-الأمريكية على أوربا. وهذا ما يفسر بعض الشيء تصرفات الرئيس الأمريكي بخصوص أوربا.
لا يترك ترامب منذ انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني فرصة إلا واستغلها لابتزاز أوربا وإخضاعها بالقوة، ضارباً عرض الحائط بكل القيم الدولية وحسن التعامل مع الحلفاء.
وها هو ذا يعيد تهديد الأوربيين في قمة الحلف الأطلسي طالباً منهم دفع المبالغ المترتبة عليهم عن مشاركتهم بحلف الناتو، وزيادة مشاركتهم المالية وهم الذين يتكلفون الكثير. الأوربيون يشاركون من خلال الناتو بمحاصرة روسيا والصين عسكرياً. يجبر الرئيس ترامب الأوربيين من خلال الناتو ومنظمات أخرى على المشاركة في الحروب القائمة في سورية واليمن.
فهم ترامب وإدارته عمق الاختلاف والانقسام الأوربي، إن كان على مستوى النخب السياسية أو على مستوى الشعوب، كما فهم حاجتهم إلى الاتفاق النووي الإيراني. من هذا المنطلق يخطو ترامب خطواته المتعددة الأبعاد، ومنها إخضاع أوربا بشكل كامل، بل العمل على انهيارها. وفي الوقت عينه جعلها تتحمل تداعيات تصرفاته. أوربا أجبرت على أن تخدم، أكثر وأكثر، مصالح أمريكا في العالم من خلال وضعها في مأزق لا مثيل له.
فالمتضرر الأكبر من انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق النووي الإيراني تبقى أوربا العالقة بين مطرقة الولايات المتحدة الأمريكية وسندان بقية الدول الكبرى.
أنطوان شاربنتيني
كاتب ومحلل سياسي متخصص بشؤون الشرق الأوسط

العدد 1104 - 24/4/2024