ماذا يريد ديمستورا ؟!

 العاصفة التي أثارتها موجة التقديرات والتخمينات حول الخط السياسي الذي سيسلكه (ترامب)، بعد استلامه دفة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، لا يشبهها سوى العاصفة التي أثارها لدى ترشحه، وهذا يعني أن ذلك البلد الذي يملك ناصية التحكم بالعالم، مصاب بأزمة سياسية يتطلب لحلها تحويل الانتخابات الرئاسية إلى معركة تغيير في البنية السياسية للنظام، وفي النظرة إلى العالم، وهل تبقى أمريكا شرطياً عليه، أم دولة، رأسمالية عظمى تكتفي بنهب ثروت الشعوب بأساليب سياسية؟

وهذا لم يحصل بالطبع، لأن طرفي الصراع الانتخابي يقعان في منزلة واحدة، ويمثلان مصالح متشابهة، وقوى ذات طابع أيديولوجي وطبقي وسياسي متماثل، ومن هنا فإن أي مراهنة على احتمال أن يكون لدى أحد المتصارعين برنامج انتخابي متمايز خارج هذين الاحتمالين، سيكون بمرتبة الخطيئة القاتلة، وكل صراع يدور الآن بينهما فهو يدخل في باب الأداء والتكتيك السياسي، ومن يشكّ في ذلك عليه مراجعة الأشكال المختلفة التي ارتدتها السياسة الأمريكية لامتصاص دم الشعوب العربية وقتل أبنائها ، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى اليوم، وعلى الأخص حيال سورية.

ما يدور الآن من اختلافات داخل البيت الأبيض حول سبل معاجلة الأزمة السورية ينطلق من أن الحفاظ على مصالح أمريكا (بحسب فريق ترامب) يتطلب خروجاً آمناً لها من المعركة التي تتصدى لها باقتدار سورية- روسيا- إيران- حزب الله- العراق ومن ورائهم جماهير عربية واسعة ستنتفض يوماً وقد ضاقت ذرعاً بما يجري من استعباد لها.

وفريق آخر (فريق أوباما) يتخبط في محاولاته لإنهاء ولايته على خير، وبما يرضي الاتجاهين معاً، أي استعمل أقسى السياسات شدة وإجراماً صد سورية، ولكن دون الوصول إلى حد التدخل العسكري الأمريكي المباشر ضدها، أي خوض حرب بالوكالة مستعملين هنا، ويا للعار، أكثر مخلوقات السماء تخلفاً ووحشية، بينما يملؤون الدنيا تغنياً بالحضارة الغربية.

لقد مضى على الحرب العدوانية الشرسة ضد سورية خمس سنوات ونصف ولم تستسلم سورية، وأثبت الشعب السوري وقيادته السياسية والعسكرية كفاءة وتفانياً واضحين، وفي ظل التعاون الروسي والعديد من الدول والقوى السياسية العالمية معه أثبتت واقعية الدولة الوطنية في البلدان لنامية حيث تشكل حركة التحرر الوطني رافعة من الروافع الأساسية للانعتاق من التخلف الاقتصادي والفكري والسياسي. ولو تمكنت الدول الوطنية من حل مهام ديمقراطية واجتماعية وتقدمية أوضح والتخلص من كثير من الأخطاء، لكان الوصول إلى حل هذه المهام أسرع وأعمق.

إذاً القضية أخذت بعداً عالمياً، الأمر الذي هدد الهيمنة الأمريكية الشاملة على منطقة الشرق الأوسط، مما استشعرت معه الأوساط الإمبريالية التي تدعم (ترامب) بالخطر الشديد على المصالح العامة للإمبريالية الأمريكية مما دعاها لتبنّيه، فضلاً عن البرامج الداخلية المختلفة، لكل من الفريقين (كالتمييز العنصري- الرعاية الصحية الخ)..

إن المرحلة الحالية من مراحل تطور الحرب العدوانية على سورية، تشهد ميلاناً متزايداً لميزان القوى لصالح سورية وحلفائها وأصدقائها، تجسد ذلك في معركة حلب على الأخص التي تسير نحو إلحاق هزيمة منكرة بالإرهابيين، وهذا الأمر يقلق الإدارة الأمريكية بشدة، ذلك أن هذه المعركة ستقرر مصير الحرب بكاملها، مما استدعى أن تبذل الإدارة الأمريكية أقصى الجهود لإنقاذ الإرهابيين عبر تحريض الرأي العام العالمي ضد روسيا وسورية بذريعة قصف المدنيين عمداً والتسبب بقتل العشرات منهم مع أنه ليس للجيش السوري أي مصلحة، بإيذاء جنوده ومقاتليه، بل المسؤولية الكاملة تقع على عاتق الإرهابيين الذين يستعملون أهلنا وأبنائنا في حلب بمثابة دروع بشرية، كما استعمل الإرهابيون عبر أسيادهم في أمريكا ومجلس الأمن الدولي من جديد أكذوبة استعمال الغاز السام من قبل عناصر الجيش السوري، ولكن هذه الأكذوبة ما لبثت أن اتضح زيفها، بلسان الخبراء الدوليين المختصين.

وبالأمس فقط، وعوضاً عن أن تتدخل الأمم المتحدة من أجل تحرير سكان المنطقة الشرقية من حلب، الذين تعدهم الفصائل الإرهابية ليكونوا دروعاً بشرية، فقد (كلفت) بعثة ديمستورا بمحاولة تمرير الفكرة المشبوهة والمرفوضة والمسماة (إدارة ذاتية) لحلب، والتي تتنافى مع حقوق سكان حلب والرقة الذين يعدونها بمثابة احتلال جديد لأراضٍ سورية.

وهذه الفكرة التي تتبلور تدريجياً في الرقة والجزيرة وبعض حلب لن تنفذ إلا بمساعي الأمريكان وبالتعاون معهم، الأمر الذييؤكد ما نبهنا إليه مراراً من خطورة التحالف بين قسم من القوى الكردية وأمريكا، عسكرياً وسياسياً، وخصوصاً أن الشعب الكردي قد جرب أمريكا ووعودها الكاذبة، فكيف تنجرّ بعض القوى الكردية إلى تحالفات مشبوهة من هذا النوع مع أمريكا ومع تركيا بشكل غير مباشر؟ وهنا يصبح السؤال مشروعاً: هل أُرسل (ديمستورا) لكي يعقّد الأزمة أم لكي  يحلّها؟ ولمصلحة من يقوم ديمستورا بهذا الدور؟

 أما على الصعيد السياسي، فقد شهدت الأشهر الأخيرة توقفاً للمساعي السياسية المبذولة لحل الأزمة السورية، بعد رفض (البيت الأبيض) المصادقة على اتفاق لافروف- كيري، بحجة مراعاته للموقف الرسمي الروسي على حساب مصلحة أمريكا.

السؤال الآن: هل يصيغ ترامب مشروعاً متكاملاً للحل السياسي، أم يكتفي بالموافقة على تنفيذ اتفاق لافروف- كيري، أم يخضع لمجموعات الضغط اليهودية، والفاشية وغيرها من المجموعات ويعود للسير في الطريق نفسها التي سار عليها (أوباما).

مع أن المعارك في الميدان تقرر إلى حد كبير نتائج المعركة، فإن الحل السياسي المستند إلى القرارات الدولية والذي يحفظ سيادة سورية على أرضها، هو العنصر النهائي والحاسم في تحديد مسار الأزمة الكبرى التي تعيشها سورية والتي ستنتصر فيها لا محالة.

 

العدد 1104 - 24/4/2024