الصحة النفسية في المجتمع السوري.. نداء من تحت الرماد

د.عبادة دعدوش:

يتجلّى اليوم الدولي للصحة النفسية في العاشر من شهر تشرين الأول كفرصة للتذكير بأهمية السعادة والاحتفاء بالصورة الإيجابية للصحة النفسية. ولكن، في سورية، تتخذ هذه المناسبة طابعاً مغايراً تماماً. إنها دعوة تأملية لحياة عانت إلى حدٍّ بعيد من الفوضى والاضطرابات، وتتطلّب منّا الاعتراف بواقع مؤلم ولكن ضروري للتغيير.

 

أصداء الحرب على النفس:

لقد عانت سورية من أزمة ومؤامرة، وكل هذا لم يُدمّر البنية التحتية فقط، بل ألقى بظلاله القاتمة على النفوس. تشير التقديرات إلى أن أكثر من ستة ملايين سوري يعانون من مشكلات نفسية نتيجة الصدمات التي تعرضوا لها، مثل فقدان الأهل، فقدان المنازل، والعيش تحت الضغط المستمر.

كل فرد لديه حكاية، وكل حكاية هي مرآة لعالم مكسور. تتردّد صدى القصص في عقول الناس، وباتت المعاناة النفسية ضيفاً غير مُرحّب به يلازمهم بلا استئذان. فالألم الذي خيّم على قلوبهم لم يترك لهم مجالاً للتعافي. تدل المؤشرات على زيادة مستوى الاكتئاب والقلق والفوبيا، وكأنها براكين خامدة تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار.

الأثر المُدمّر للمؤامرة والحرب على سورية تعتبر واحدةً من أكبر الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، وقد أسفرت عن تداعيات نفسية خطيرة. هل تساءلت يوماً كيف يمكن أن تتجوّل في شوارع مدينةٍ كانت تعجُّ بالحياة، والآن تنبعث منها صرخات الجراح وذكريات الفقد؟ يعيش الكثير من السوريين في حالة من التشتّت، بين الأمل في غدٍ أفضل وذكريات الماضي المؤلمة. هذه الحالة النفسية تجعلهم عالقين في دوامة من الحزن والشعور بالذنب والفقد.

العلاج النفسي حلم بعيد المنال:

في قلب هذا التحدي، يتضح بصورة صارخة الحاجة إلى العلاج النفسي. لكن، في ظلِّ الواقع المعيشي الصعب، كثيرون لا يعرفون أصلاً ما هو العلاج النفسي. فقد أصبح مصطلح (الاختصاصي النفسي) كائناً غريباً في قواميس الحياة اليومية لكثير من السوريين.

تتعدّد العوائق التي تمنع الفرد من السعي للحصول على المساعدة، مثل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، ونقص الوعي بأهمية الصحة النفسية، ومخاوف من الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالبحث عن المساعدة النفسية. وهنا، يمكن القول إن هؤلاء الأشخاص يواجهون الصراع مرتين: مرة مع الحياة، ومرة مع الأفكار المروّعة التي تنبع من دواخلهم.

 

الأمل والفجر الجديد:

ومع كل هذا الألم، يبقى الأمل حاضراً. هناك مبادرات كثيرة بدأت في المجتمع السوري تهدف إلى تعزيز الوعي بالصحة النفسية. منظمات غير حكومية ومبادرات محلية بدأت تقدم ورش عمل، ومحاضرات، وندوات حول أهمية الاعتناء بالصحة النفسية، وكيف يمكن علاج الصدمات النفسية. كما أن المنظمات الدولية والجمعيات المحلية وبعض الاختصاصيين النفسيين بدؤوا بتقديم جلسات علاجية مجاناً أو بأسعار زهيدة لكسر حاجز التكلفة. لذا، نجد أن هناك حراكاً بطولياً ينطلق من وسط الركام، إذ تتجمع الجهود في محاولة لإعادة بناء النفس قبل إعادة بناء المجتمع.

 

من الألم إلى الانتعاش:

في هذا اليوم الدولي للصحة النفسية، دعونا نُعبّر عن تضامننا مع جميع السوريين الذين عانوا وما زالوا يعانون. نحن بحاجة إلى دعم الصحة النفسية كما ندعم البنية التحتية، ونحتاج إلى توفير بيئة آمنة تسمح بالشفاء والتعافي.

إن الطريق لن يكون سهلاً، لكن مع الوعي، والتعليم، والاهتمام المجتمعي بالصحة النفسية، يمكننا أن نعيد بناء أمة تتحدى الظلام بإضاءة الأمل. القرار اليوم هو الاعتراف بأن العناية بالصحة النفسية هي حق أساسي لكل إنسان، وأن الطريق نحو التعافي يبدأ بخطوة صغيرة نحو الفهم والمصالحة مع الذات. لنحيا، ولنُقصي عن واقعنا كل الأوجاع، ولنكن صوتاً لمن يحتاج إلى العلاج، فالصحة النفسية ليست مجرّد ترف، بل هي منارة حقيقية في ظلام السنوات العجاف.

العدد 1140 - 22/01/2025