في ظلّ الكوارث والحروب.. التأهيل النفسي في سورية ضرورة تقتضيها إعادة البناء
إيمان أحمد ونوس:
تعترضنا بين الحين والآخر حالات من الحزن المفاجئ أو القلق والضيق الذي تستحيل معه حتى ثواني العمر إلى ساعات مديدة من سواد يلفُّ حياتنا دون أن نعي في كثير من الأحيان سبباً واضحاً لما نُحس. كما نقوم في أحيان أخرى وبشكل لا شعوري بتصرفات قد نُدرك أنها غير منطقية، لكنها تقع خارج إرادتنا الواعية الرافضة لها.
قديماً، بحث الفلاسفة القدماء في أوجاع النفس، فوضع أرسطو كتاباً قيّماً سمّاه (في النفس) ترجمه إلى العربية إسحق بن حنين، واشتغل عليه فيلسوف قرطبة ابن رشد. وهكذا وصولاً إلى عصرنا الحديث الذي تتالت فيه الاكتشافات المختلفة ومنها العديد من الأمراض النفسية التي استدعت وجود اختصاصات متنوعة من أجل تخليص الإنسان المعاصر من مشكلاته النفسية وأزماته التي فرضتها الحضارة والحداثة بما حملتاه من تقنيات وصراعات وحروب.
وفي هذا اعتراف جليّ بأن النفس كما الجسد، لها إشكالياتها المختلفة وأوجاعها المتنوعة المحتاجة أبداً لبلسم يداويها كي يعيش الإنسان بأقلّ قدر ممكن من مُنغّصات تعرقل مسيرة حياته وعطائه. وفي ظلّ ما عاشه ويعيشه حتى اللحظة غالبية السوريين جرّاء حرب أتت على البشر والحجر، وكُنّا جميعاً وقوداً لنيرانها بشكل أو بآخر، تجلّى بعضها بضغوطات وشدّات نفسية خطيرة طالت الجميع بلا استثناء، والأطفال بشكل رئيسي بحكم هشاشة تكوينهم النفسي وبراءتهم، ممّا استدعى علاجهم بشكل سريع كي لا يقعوا فريسة أمراض نفسية وجسدية تقتلعهم من الحياة وتجعلهم ريشة في مهب رياح التخلف والجهل والضياع.
فإذا ما نظرنا اليوم إلى واقع السوريين النفسي نجد أن الاهتمام الشعبي أو الحكومي مازال بعيداً كل البُعد عن الاحتياجات الضرورية في هذا المجال، إذ ما زالت الثقافة الشعبية الرافضة لوجود صحة نفسية، أو بأفضل الأحوال هي قائمة على ربط العديد من التصرفات اللامنطقية بالسحر والخرافة والشعوذة. لذا، تبقى حجر عثرة كبيرة في طريق المعالجة الضرورية والسريعة للعديد من الحالات التي تظهر في المحيط لاسيما فيما يتعلّق بالأطفال. أمّا على المستوى الحكومي فلا نجد أو نلمس الاهتمام الجدي والفعّال إلاّ ما ندر، واقتصار المعالجة على ورشات عمل أو حملات توعية لا تُغني ولا تُثمر، فالمراكز التي من المُفترض ان تُحدَث لهذا الغرض ما زالت قليلة قياساً للواقع الذي أفرزته الحرب، كما أن أعداد المختصين في هذا المجال لا يُمكنها تغطية كل المناطق والاحتياجات المطلوبة. ورغم وجود اختصاصيين ومُرشدين نفسيين واجتماعيين في المدارس، إلاّ أن عملهم ما زال مُقيّداً ومُقتصراً على معالجة بعض السلوكيات السلبية عند التلاميذ والطلاب بما لا يتعدى أسوار المدرسة.
بالمقابل، نجد العديد من الهيئات والمؤسسات المدنية العاملة في مجال الصحة النفسية، والتي نشطت بشكل لافت مع اندلاع نيران الحرب في العديد من المدن والبلدات، مثلما كان لها الدور الأبرز في معالجة حالات الهلع والخوف التي عاشها السوريون في المناطق التي تعرّضت للزلزال المُدمّر الذي ضرب المنطقة ومنها سورية في شباط من العام الماضي، مع استمرار تلك الجهود أثناء الهزّات القوية وتوابع الزلزال الماضي خلال الأشهر المنصرمة من هذا العام، بما دفع بالعديد من الناس للجوء إلى هذه المؤسسات بعد النتائج الإيجابية التي حققتها في أنشطتها تلك، وهذا ما يدفعنا لتساؤلات عدّة: إلى متى ستبقى الثقافة النفسية غائبة عن حياتنا، وإلى متى ستبقى صحتنا النفسية رهينة الشعوذة والدجل أو الإهمال التام.. هل يعي الأهل والمجتمع بمختلف هيئاته المعنية (رسمية وأهلية) ضرورة الاعتراف بخطورة تلك الأزمات والأمراض على مستقبلنا ومستقبل الوطن، وبالتالي ضرورة التصدي لها بكل الوسائل؟
وأيضاً، هل تعي حكوماتنا أن إعادة ترميم وتأهيل وبناء الإنسان بذات الأهمية والضرورة التي تستدعيها إعادة بناء سورية واقتصادها بمختلف اتجاهاته وفروعه، بل إنه أكثر أهمية لأن التأهيل النفسي وترميم ما خلّفته الحرب والكوارث الطبيعية في نفوس السوريين جميعاً، والأطفال بصورة خاصة يعني تلقائياً بناء مستقبل البلاد وشعبها بناءً يليق بصبرهم وصبرها لنتفرّد بين شعوب العالم بتصدينا وانتصارنا على حرب ابتغت موتنا وتلاشينا عن خارطة الإنسانية والحضارة.