إلى متى ستدوم القدرة على الصبر؟
إيمان أحمد ونوس:
عبر تاريخ البشرية، ومنذ ظهور العمل كقوة يحصل العامل من ورائها على قوت يومه ومستلزمات معيشة أسرته وكل من يُعيلهم، برز، بجلاء، التفاوت الطبقي والاجتماعي الذي أوجد طبقة العبيد التي كانت بمثابة خادم لربِّ العمل/ الإقطاعي المالك الأساس للأراضي الزراعية وكل من عليها. ولاحقاً جاء ربُّ العمل/ الرأسمالي المالك الأساسي للمنشآت الصناعية بكل ما فيها حتى العمال أنفسهم، فتحكّم المالك بحياة العامل/ العبد في أدق تفاصيل مجرياتها.
لاشكَّ أن هذا الواقع البشري قد أدى إلى فقر وحرمان، وحتى إلى إذلال بكل مستوياته وأذاه، عانت منه طبقة العبيد والعمال البؤساء دون سند أو دعم، أو أدنى محاولة للمطالبة بأقلِّ الحقوق وأبسطها!
بالمقابل، كان رجال المعبد أو الكهنة، كما كان من بعدهم رجال الدين من أهم الداعمين لأرباب العمل والملاّكين بسبب الحظوة والسطوة التي امتلكوها للتحكّم بمصير البشر، إضافة إلى الدعم المادي المُقدّم لهم من أولئك المُلاّك، في الوقت الذي كانوا فيه يدعون العبيد والفقراء للتحلّي بالصبر وامتلاك القناعة بأن مصيرهم هذا قدرٌ محتوم قبل أن يروا النور، في محاولة لتقليل حدّة السخط والتمرّد إن لاح منهما شيء في الأفق. لكن، وللأسف أن غالبية أولئك المُهمّشين كانوا مؤمنين بالفعل أن هذا الواقع الفظيع الذي يعيشونه قدر من الآلهة لا فرار منه، ولا يدَ للمالك فيه!
لقد تنبّه ونبّه فيلسوف قرطبة وحكيمها ابن رشد إلى هذا الواقع المرير، وإلى الدور السلبي والقذر الذي كان ولا يزال يُمارسه بعض رجال الدين من أجل حماية مصالحهم ومصالح الفئات المالكة أو الحاكمة حين قال:
(إذا رأيتَ الواعظ يحثُّ الفقراء على القناعة والزهد دون الحديث عن سارقي قوتِهم، فأعلم أنّه لصٌّ بملابس واعظ).
فإذا ما أمعنّا النظر في تاريخنا المعاصر مروراً بواقعنا الرهيب الذي نعيش أسوأ كوارثه وويلاته اليوم نتيجة استبداد النُظُم السياسية المُتحكّمة بحياة الناس وفسادها، نجد أن غالبية رجال الدين وحتى بعض قيادات الأحزاب السياسية والنقابية المُتحالفة مع هذه النُّظُم والفئات الحاكمة ما زالت في مختلف المجتمعات تتّخذ المنهج ذاته والأسلوب نفسه في الدفاع عن مصالح تلك الفئات، وبالتالي الدفاع بشكل غير مباشر عن مصالحها باعتبارها مُستفيدة إلى حدٍّ كبير من هذا التحالف، مُستغلّةً سطوة رجال الدين ونفوذهم على مختلف شرائح المجتمع، نظراً لما للدين ورجاله من دور أساسي ومحوري في حياة الناس.
أجل، إن أولئك المُتحالفين مع النُّظُم والفئات الحاكمة، والذين يلعبون دور الواعظ أمام الجماهير من خلال تبريرات قد تبدو للبعض منطقية وضرورة مُلحّة في مواجهة الأخطار الخارجية دون الحديث عن تقصير الحكومات تجاه مواطنيها، وعن مكامن الخلل والفساد الذي يغتال كل الحقوق والواجبات المنصوص عنها في الدساتير، شأنهم شأن ذلك الواعظ الذي يحثُّ الفقراء على القناعة والزهد دون حتى الإشارة إلى سارقي قوتِهم، وبالتالي هم في الباطن لصوص وفاسدون لا يختلفون بذلك عن النُّظُم والفئات الحاكمة التي تسطو على مقدرات البلاد والعباد دون وجه حق، وبدعم مُطلق من قبل بعض رجال الدين والقيادات السياسية المُتحالفة معها، وكذلك القيادات النقابية التي كان حريّاً بها أن تحمي وتحافظ على حقوق منتسبيها وأعضائها بدل أن توجد مُبررات غير صحيحة وغير مقبولة لسرقة تلك الحقوق أو التلاعب بها.
لقد ساد هذا الواقع في المجتمع السوري بشكل كبير، فكان أحد أهم الأسباب التي أدّت لنشوب أزمة سياسية ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب كارثية اغتالت مختلف أوجه الحياة لعموم السوريين الذين تشرّد غالبيتهم في أصقاع الأرض لاجئين ينشدون الأمن والأمان، والباقي منهم بات نازحاً إلى المناطق شبه الآمنة داخل البلاد، إضافة إلى أن الحرب وما رافقها من كوارث وويلات لم يشهد التاريخ لها مثيلاً قد فاقمت العديد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، فباتت لقمة العيش حلماً صعب المنال، وقطرة الماء شهوة مرجوّة قد لا تُطال، أمّا فقدان الدفء والنور فحدّث ولا حرج عمّا آلت إليه أوضاع البلاد والعباد في ظلِّ ندرتهما، وكذلك الدواء والعلاج الذي بات عبئاً ثقيلاً يُرهق كاهل المرضى الذين باتوا يلوذون بالتداوي بالأعشاب لأن لا قدرة لهم على العلاج في العيادات أو المشافي وشراء ما يلزم من دواء!
لكن يا تُرى، هل أنهت هذه الحرب بكل فظاعاتها الفساد واللصوصية واغتيال الحقوق؟
بالتأكيد لا، بل هي فاقمت من كل هذا في ظلِّ صعود شرائح من تجّار الحرب ولصوصها ووصولهم إلى سدّة التحكّم بمصائر البلاد والعباد، ما فاقم من حدّة اللصوصية تحت شعارات ومُسميّات وطنية وما شابهها، فقط لأجل صرف أنظار واهتمام أولئك المسحوقين عمّا آلت إليه أحوالهم بسبب الحرب والنهب والفساد، وتوجيهها فقط إلى ضرورة الصبر والصمود للوصول إلى الأهداف المنشودة والتي هي من منظور أولئك البسطاء الأمان وتأمين أبسط الاحتياجات بأسهل الطرق، بينما أولئك المنافقون يرتعون في نعيم فسادهم الذي اغتال حتى لقمة عيش البسطاء!!
فإلى متى ستدوم القدرة على الصبر والتحمّل؟
أليس من الممكن أن تتحوّل هذه القدرة إلى نار تحرق بلهيبها عروش الفساد!؟