القناعة لا تنفع أن تكون دائماً كنز
وعد حسون نصر:
لا شكّ أن من يعظ دائماً بالزهد والقنوط شخص يتصف إمّا بالاستسلام للظروف القائمة، فلا يعرف روح المحاولة والتجربة، كما قد لا يكون قد ذاق يوماً لذة الفرح، ولا شرب حسرة الخسارة! لكن، وغالباً ما نرى أشخاصاً وتحت ذريعة الزهد تحاول إقناعنا وبشكل غير صريح بالقنوط والتّخلّي عن مغريات الدنيا ليكون طريق النجاة للآخرة أمامنا مفتوحاً ومُيّسراً حسب وجهة نظره.
كم نسمع من خطابات وخُطب في المساجد تدعو للتّخلّي عن متاع الدنيا والتمسّك بالزهد والخشوع لله من أجل الخلاص، وبالمقابل نرى الداعي لها ينعم بمنزل جميل وأثاث وسيارة فارهة، يقضي شتاءه في مكان وصيفه في مكان آخر! وكم من مسؤول يلقي على شعبه شعارات طنّانة ورنّانة تدعو للصبر وعدم المطالبة بالمزيد تحت ذرائع مختلفة، منها أننا بحالة نزاع دولي، ونحن تحت تأثير حصار، كُنّا نخوض حرباً ضروس، وللتو بدأنا نخرج من عمق أزمتنا! لكنك تجد المسؤول ذاته لا يمنع عن نفسه التمتّع بالدفء وطيب المأكل وحسن المسكن والحياة الكريمة له ولأبنائه من سيارات فارهة وبأفضل الجامعات والمدارس، بينما يطالب أبناء شعبه التّحلي بالصبر والصمت عن المطالبة بحقوقهم!
فقط في بلاد العرب نرى الداعية والمسؤول مُطالباً شعبه ورعيته دائماً أن يتحلّوا بالصبر، بذريعة أن الابتلاء خلاص للروح من ذنوبها في الوقت الذي ينسى أو يتناسى فيه أنه يوجد سارق لقوتهم، وسارق لأحلامهم، وسارق لأجورهم …الخ. هذا التناقض الغريب الذي نعيشه عندما نطلب من الفقير والمُستغَل أن يصبر على الابتلاء وننسى من هم سبب هذا البلاء، ولا نرى هؤلاء في ازدياد إلاّ في البلاد التي ترزح تحت خطوط الفقر، فهم يتوجّهون للحلقات الأضعف من المجتمع، لأنه من الطبيعي أن الشخص الضعيف الفاقد أبسط مقومات الحياة أن يركض للتمسّك بقشّة النجاة، وهنا يكون الوعظ وخاصةً من خلال الدين عن طريق بعض الخطباء المُتشدّقين بِحِكَمٍ مفادها أنه: كلما أحبك الله زاد في ابتلائك، فاصبر إن فرج الله لقريب!! مع العلم أن هؤلاء الخطباء لا يستطيعون الصبر على تقلّصات معدتهم قليلاً في حالة الجوع أو العطش، ولا يصبرون على المشي تحت الشمس أو المطر لبضع دقائق، لكنهم يتّجهون بمواعظهم العصماء فقط للشعب المسكين.. لأننا لم نسمع يوماً داعية تحدّث عن مسؤول وطالبه بالصبر والإنصاف بحقوق الرعية، ولم نرَ يوماً داعية صلّى أمام المُصلّين على جنازة عبدٍ لله فقير ومسكين.. لم نرَ واعظاً خطب بالشعب وحثّهم على المطالبة بحقوقهم وصون كرامتهم.. هم دائما يُجَمّلون الصبر للفقير وكأنه قدرٌ كتب عليهم لتُفرَجَ عند أسيادهم، وبالتالي إشغال الشعب بالبحث عن قوتهم اليومي لا أكثر، ومن الطبيعي أن يصرفهم عن المطالبة بحقوقهم وسواها؟
بالتأكيد، هذه مهمّة رجال الدين المُتكاتفين والمُتحالفين مع رجال السلطة من أجل مصالحهم المُشتركة، فمن خلال منابر المساجد نعظ الفقراء للتحلّي بالعفو والتسامح والصبر على الفقر لأنه امتحان من ربِّ العباد لتخفيف البلاء عنهم ومحو ذنوبهم.. وهنا ينصرف فكر هؤلاء الناس عن حقوقهم ويتجهون لتأدية واجباتهم المفروضة علَّ الله يكتب لهم منزلة حسنة في الآخرة! وعليه، فمن الطبيعي أن نرى البلاد التي يسير شعبها خلف خطباء الجوامع ماكثة في عجز مُبرّر تحت مفهوم واهٍ أنه من شدّة حب الله لشعب تلك البلاد فقد اصطفاه ليكون من الصابرين المقيمين في جنّات نعيمه! في الوقت ذاته ترى هذا الشعب مستكيناً لا يسعى لتطوير ذاته، ولا يسمو للحضارة للبحث عن الذات، بل تراه مشغولاً بمفاهيم الجهاد والثأر والصبر على المحن، شعبٌ يتلذّذ بفقره لأنه سيحظى بالعيش الرغيد في الآخرة، وهنا تُستَضعف الأمم ويعمُّ الفقر على الشعوب والأمم، وترى الرعية يسجدون للراعي، وأن الصبر واجبٌ وقدرٌ على الفقراء، بينما السادة والأغنياء ينعمون بطيب الحياة في دنياهم، وفي الآخرة لهم فقط حفنة تراب.