حول نظام عالمي جديد للمعلومات

يونس صالح:

منذ سنوات عديدة بدأ الحديث عن إنشاء نظام اقتصادي عالمي جديد، وها نحن نعاصر الآن دعوة أخرى لإنشاء نظام عالمي جديد للمعلومات، يعكس مدى شعور دول العالم الثالث بالظلم الواقع عليها، فالعلاقات الاقتصادية السائدة لا تجعلها فقط أكثر فقراً، ولكن نظم تبادل المعلومات والاتصالات الدولية الحالية تساعد على تثبيت هذه الأوضاع وتأبيدها.. ومن هنا جاءت الدعوة إلى نظام عالمي جديد للمعلومات كحلقة أخرى في مطالبة الفقراء لتعديل أوضاع العالم، وإنشاء نظام اقتصادي جديد.

ومجرد نظرة إلى الإحصاءات المتاحة حول وسائل المعلومات والاتصالات تكفي لبيان مدى ما يعانيه العالم الثالث من تخلف في هذا الميدان، تجعله ليس فقط غير قادر على إسماع صوته للعالم، بل- وهو الأخطر- غير مستطيع أن يعرف نفسه ومشاكله. إن العالم الثالث لا ينتج إلى القليل، وتنهب ثرواته الباطنية بأقل الأسعار.. إن غلبة مستويات الإنتاج والاستهلاك المادي للسلع في البلدان النامية قد ألقى بقضية المعلومات والاتصالات بعيداً في قائمة الأوليات حسب تفكير رجال السياسة، وهو ما قد يحتاج إلى مزيد من التأمل وإعادة النظر.

التاريخ هو إلى حد بعيد تاريخ التزاوج بين أمرين أساسيين: المادة، والمعلومات، فالإنسان في تاريخه الطويل قد حاول إخضاع المادة لسيطرته، وتطويرها لحسابه.. على أن هذا ما كان يمكن أن يتحقق دون تطور مماثل في معلومات الإنسان عن الوسط المحيط به وعن نفسه.

ويمكن أن نقول من زاوية معينة إن مشكلة الاقتصاد المعاصر هي التوازن اللازم بين المادة والمعلومات.. لقد شاهدنا في هذا العصر ثورة الإنسان في سيطرته على المادة، مع ما صاحبها من ثورة في المعلومات.. وينبغي أن نفهم المعلومات هنا بمعنى واسع يشمل العلوم والفنون والآداب والتاريخ وكل صور المعرفة.. إنها أمور تتجه إلى عقل الإنسان وذوقه في الدرجة الأولى.. لا أحد يستطيع أن يعارض تحسين مستوى المعيشة وتوفير السلع والخدمات اللازمة لتحقيق حياة متكاملة، بل الوجود الإنساني كله يتعرض للزوال ما لم تتوفر هذه السلع والخدمات، وهي أمور ترتبط إلى حد كبير بالإنتاج المادي.. ولكن الخطر كل الخطر هو أن ينظر إلى سعادة الإنسان وإلى الهدف من الحياة باعتباره تجميعاً لكمية أكبر من (الأشياء) دون الاهتمام بأمور أخرى قد لا تقل أهمية، وهي التوازن بين الأشياء المادية والعناصر المعنوية.. أما فكرة المعلومات فإنها يمكن أن تضيف إلى هذه المطالبة مزيداً من الوضوح.. ولعله من المفيد أن نشير إلى أنه، حتى في إنتاج الأشياء، يكون دور المعلومات دوراً أساسياً.. وقد ازداد في العصر الحديث الاقتناع بأهمية المعلومات في الإنتاج، وهكذا أصبحت بنوك المعلومات وإدارات الإحصاء والبيانات إحدى خصائص الإنتاج الحديث.

والآن، إذا نظرنا إلى أوضاع الدول النامية ومقارنتها بالدول الصناعية المتطورة، نجد أن قصور الأولى في اللحاق بالثانية يرجع إلى حد كبير إلى الوضع النسبي الذي بدأت به هذه الدول.. فالدول الصناعية- وقد بدأت التراكم الرأسمالي منذ أكثر من قرنين، قد تركت لأبنائها تركة كبيرة من القواعد الأساسية ومن الطاقة الإنتاجية في شكل طرق ومصانع وبنية تحتية وغير ذلك، مما يجعل تقدمها أمراً ميسوراً، أما الدول النامية فإنها قد بدأت من الصفر تقريباً، ولا يخفى أن لهذا الأمر تأثيراً بالغ السوء للشعور باليأس من اللحاق بالأغنياء.

بيد أن ذلك لا يعني انعدام الإمكانية لدى هذه الدول لتحقيق نتائج في هذا المجال تفتح آفاقاً للأمل والنجاح، بشرط أن يتم كل ذلك بالاعتماد على النفس بالدرجة الأولى، وبخلق مجتمع جديد يستند إلى قيم تضع القيم الذهنية والفنية في مرتبة عليا من الاهتمام، ولا تجعل السعي وراء حيازة الأشياء الأمر الوحيد الجدير بالاهتمام.. إلا أننا إذا نظرنا إلى الواقع في بلداننا النامية فإننا نرى أن الأمر أكثر صعوبة ومرارة، فرغم ما حققته من تقدم خلال الربع القرن الأخير، فإن شعور الإحباط لا يفارقها، بالنظر إلى اتساع الفجوة بينها وبين العالم الصناعي المتقدم، وأصبح الحديث عن اللحاق بتلك الدول المتقدمة أمراً بالغ الصعوبة.

إن العالم الثالث يحتاج من أجل تحقيق هذه المهمة إلى نظام جديد للمعلومات، ولكنه يحتاج بالقوة نفسها إلى إعادة النظر في أهدافه من النمو وفي مزيد من المشاركة، لأن قضية المعلومات لابد أن تستمر جنباً إلى جنب مع قضية المشاركة والديمقراطية، بل إن الديمقراطية الصحيحة لا يمكن أن تقوم بلا معلومات كافية، كما أن أجهزة المعلومات في غيبة الديمقراطية قد تصبح كارثة على الحرية..

إن المعلومات وسيلة لتحرير الأذهان، ولكنها، إذا لم توضع لها الضوابط الحقيقية، قد تنقلب إلى وسيلة للسيطرة على الأفراد والقضاء على حرياتهم.

العدد 1140 - 22/01/2025