ضرورة العودة إلى فضيلة الحوار والتسامح وقبول الاختلاف

يونس كامل صالح:

تُتيح المنتديات الالكترونية والمدونات والمواقع الاجتماعية مراقبة ظاهرة كيفية التخاطب الجماعي بين الأفراد عبر الوسيط الجديد الذي يسمح بنوع من النقاشات الافتراضية التي يمكن منها تحليل مدى تمتع الأفراد في المجتمعات العربيّة بثقافة الحوار والقدرة على تبادل الآراء والحجج والاقناع أمّ العكس.

ولا شك أنّ مثل هذه الوسائط الجديدة قد فتحت باباً واسعاً لحرية الرأي والحوار في العديد من القضايا التي تخص أفراد المجتمعات العربيّة من الأدب والثقافة إلى السياسة والدين والأخلاق، وفيما يتعلق بكلّ مجال من هذه المجالات من تفصيلات تتراوح درجة حساسيتها وفقاً لطبيعتها. ويمكن القول إنه لم يعد هناك موضوع منغلق على النقاش تقريباً، من الحرية الجنسية إلى التغيير في الحكومات والدعوة للحرية، ومن نقد مظاهر الفساد في الثقافة والسياسة والمجتمع، إلى السجال حول حرية الاعتقاد، ومن نقد برامج الفضائيات إلى التعليق على الأحداث السياسية والثقافية المختلفة وسوى ذلك.

لكن وبالرغم من ذلك، فالواضح تماماً أنّ المجتمعات العربيّة التي تمّت تربيتها على الانغلاق الفكري وسيادة الرؤية الواحدة، وعلى الرقابة، والتزمت والتشدد في قشور الأمور وتوافهها، والانحياز للشكل على حساب المضمون، قد أثّرت في الذهنية العربيّة فأصبحت فاقدة للقدرة على الحوار. لا تمتلك أساسياته، فغالباً يأخذ الحوار شكلاً عصبياً، لا يمتلك أطرافه القدرة على تبادل وجهات النظر، وسرعان ما يتحول للشخصانية، وقد ينتهي بالشتم، أو النيل الشخصي من طرف تجاه آخر، أو ممارسة ألوان من الاتهامات التي تتخذ طابعاً عنصرياً، وفي أفضل الأحوال، فقد ينتهي الحوار قبل أنّ يبدأ أو يتخذ شكلاً من أشكال المزاح.

وقد يكون من البديهي أنّ أطراف الحوار من المتشددين والمتعصبين أصحاب الأفكار المنغلقة، والرؤية الواحدة الذين لا يقبلون خلافاً في الرأي هم نموذج لهذا النوع من الحوار، والذي يصلح لأنّ نطلق عليه “حوار الطرشان”، ولكن في الواقع أنّ هذا النوع من الحوار ليس مقصوراً على تلك الفئة فقط، بلّ يمتد حتى للعديد من الفئات الأخرى من الشباب، بلّ والبعض من المثقفين وغيرهم من أصحاب الرؤى الليبرالية.

والحقيقية أننّا لا يمكن أنّ نفصل بين ظاهرتين باعتبارهما سبباً ونتيجة، وهما ظاهرة الرقابة والمنع والمصادرة من جهة، وظاهرة انعدام لغة الحوار وتدني مستواه، من جهة أخرى في المجتمعات العربيّة، وغياب معنى وقيمة الحوار وفلسفته بشكل عام.

فالرقابة كفكرة، ومفهوم عام، هي في جوهرها تعني عدم القدرة على الحوار، وتأكيد فاضح على أنّ الطريقة الوحيدة لأصحاب فلسفة الرقابة، هي فلسفة الإلغاء الثنائية “إذا لم تكن معني فأنت ضدي” وأنّ الاختلاف في الرأي لا يواجه إلا بنفي الرأي الأخر، واعتباره ليس موجوداً وذلك بحجبه ومصادرته ومنعه وحرقه لو اقتضى الأمر.

وفكرة الرقابة ومحاكم التفتيش على مستوى التاريخ واكبت باستمرار فترات التسلط والديكتاتوريات في أوروبا في العصور الوسطى، وهي عصور الانحدار العربي، وفي العصر الحديث.

وعندما تتسيد الرقابة مجتمعاً من المجتمعات فإن أفراده يفقدون القدرة على التعبير عن آرائهم. إمّا بسبب غياب ثقافة الحوار التي تفترض أنّ العقول البشرية أنداد لا يتفوق أحدهما على الآخر إلا بقوة المنطق ونزاهته العلمية، ومدى براعته في عرض أفكاره، والتي تستلزم أنّ يكون واسع الاطلاع على موضوع حواره، أو القضية التي تثير اهتمامه، وهي الفضائل التي أصبحت شبه منعدمة اليوم في الثقافة العربيّة.

وبالرغم مما تكشفه ثقافة “حوار الطرشان” السائدة اليوم في الصحافة والإعلام وصولاً لوسيط الانترنت، على المستوى العربي، فالمؤكد أنّ الفضيلة الموجودة هي فكرة الحوار نفسها، حتى لو بدت اليوم عاجزة، إمّا مقعدة أو كسيحة بسبب غياب الحوار من قبول للأخر، وقبول فكرة الاختلاف وسيادة قيم التسامح كقيمة إنسانية حتى على مستوى الأديان. فقبل ما يزيد عن 800 عام نادى الفيلسوف العربي ابن رشد ما معناه أنّ الذي يطعن في أحدّ الأديان ليثني على دين آخر يكون كمن يطعن على جميع المبادئ الدينية المشتركة، كما أشار المفكر العربي فرح أنطون في كتابه الشهير “ابن رشد وفلسفته”، وهو كتاب بالغ الأهمية نُشر لأول مرة في الإسكندرية عام 1903م، واختلف مع ما جاء فيها الشيخ المستنير محمد عبده، فرد على فرح أنطون ودار بينهما حوار من أرقى ما يكون من حيث تقبل كلّ منهما لفكر الآخر، والرد عليه بالمعرفة والمنطق والحجة في دلالة واضحة على مرحلة مهمّة من مراحل النهضة التي شهدتها المنطقة العربيّة، حتى عادت الأفكار الظلامية إلى الواجهة مرة أخرى بعد هزيمة 1967م وانتشارها في البلدان العربيّة حتى تسبب اليوم في وجود كليشيهات أوروبية وأمريكية ترتبط بالظلامية والتخلف والإرهاب باسم العرب وهو ما سيظل ملتصقاً بهم إن لم يستعيدوا فضيلة الحوار والتسامح وقبول الاختلاف والعودة للعلوم والفكر الإنساني والديمقراطية.

5/1/2025

العدد 1140 - 22/01/2025