لا أمل في الخروج من التخلف دون إصلاح ديمقراطي جذري
يونس كامل صالح:
إن الوضع الذي تعيشه البلدان العربيّة يجعلها هدفاً استراتيجياً بعيد المدى من أهداف الليبرالية العالمية المتطرفة التي تتزعمها مجموعة صغيرة من الدول، والشركات متعددة الجنسية. فليس من مصلحة هذه القوى المحافظة أنْ يحدث إصلاحٌ ديني أو سياسي حقيقي في البلدان العربيّة، خلافاً لما تدعيه كذباً وبهتاناً.
ولا شك أنّ حلّ معوقات الإصلاح الديني هي في الوقت ذاته معوقات لمشروعات التحديث والإصلاح الديمقراطي في مختلف البلدان العربيّة. وقد آن الأوان لطرح السؤال التالي: ما علاقة الإصلاح الديني بقضايا الحداثة وحقوق الإنسان؟
إنها علاقة عضوية ومتينة في مجتمعات تعجّ بمواقف ورؤى يرى أصحابها في حداثة عصر الأنوار نموذجاً غربياً مستورداً، ويُصنفون المؤمنين بها، والداعين إليها ضمن زمرة منبتّة ارتمت في أحضان الغرب، وتنكرت للقيم الإسلامية. كما أنّ هناك حركات تتمتع بقاعدة شعبية واسعة، إذ إنّها تنطلق من أرضية دينية، وترى أنّ الإسلام قد ضمن حقوق الإنسان كاملةً، ولا حاجة للتمسك بالمواثيق الدوليّة لحقوق الإنسان. والغريب أنّ هذا الموقف يلتقي مع موقف بعض النظم العربيّة ذات الطابع الشمولي، والمعادية لمبادئ حقوق الإنسان كما نصت عليها المواثيق الدوليّة، بحجة الخصوصية، أو بحجة أنّ المجتمع لم ينضج بعد لتطبيق هذه المبادئ. فالموقفان يصبّان في مجرى واحد في نهاية المطاف، بالرغم مما تدعيه عن مناهضة الحركات الأصولية باعتبارها تمثل عائقاً أمام مسيرة التقدم، والالتحاق بركب الحضارة.
وأودّ في ختام هذه الكلمات السريعة حول معوقات الإصلاح في بلداننا العربيّة أنْ أركّز بإيجاز على الخطوات العملية التي يمكن أنّ تمهد يوماً ما لبروز حركة إصلاح ديني جذرية تكون رافداً ثرياً من روافد التحديث والتقدم في البلدان العربيّة، وهي خطوة ضرورية تتطلب نضالاً طويل النفس من جهة، وتراكماً معرفياً من جهةٍ أخرى، وهي ليست منعزلة عن جبهات النضال الأخرى، إذاً من الضروري:
أنّ تنطلق الخطوة الأولى من إعادة النظر في برامج الدرّاسات الإسلامية، وتنشئة نخبة من ذوي الاختصاص العميق في مختلف فروع المعرفة الإسلامية، مع الاطلاع الدقيق على ما حققته المناهج الحديثة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، والإحاطة بالدراسات التي أنجزها رواد حركة التجديد الديني في العالم العربي منذ بداية عصر النهضة من جهة، وما أنجزه علماء الاجتماع من بحوث جدية عن الحضارة العربيّة الإسلامية.
التخلّي عن ادعاء احتكار حقيقة واحدة، ومحاولة فرضها على الآخرين، فلا مناص من قبول تعدد العقائد الدينية، والرؤى السياسية والاجتماعية والفكرية في المجتمع الواحد، ويمكن الإفادة في هذا الصدد من الجوانب المضيئة من التراث العربي الإسلامي.
أثبتت الدرّاسات التاريخية أنّ ظاهرة التعصّب قد برزت في المسيحية وفي الإسلام لمّا بدأت القراءة الخاطئة للنص الديني، وبدأ تأويله لمصلحة النزاعات السياسية سواءٌ كان أصحابها في السلطة أو في صفوف المعارضة. فلا بدّ أنّ تكون قراءة النص الديني قراءة علمية موضوعية تُنزل النص في سياق تاريخي، ولا تعزله عن مكانه وزمانه.
المرور من مرحلة (الإيمان الدوغمائي) أو (الإيمان العجائزي) حسب التعبير القديم إلى مرحلة (الإيمان العقلاني)، وهناك في هذا المجال جوانب مشرقة في تراث الفكر الإسلامي. إن كلّ دين يقوم على لب إيماني ذي نمط عقائدي (عجائزي)، ولا غضاضة في ذلك بشرط أنّ يبقى في المستوى الشخصي، وألّا يمسّ الحياة العامة، أيْ لا يؤثر في شؤون السياسة والدولة والمجتمع.
أنْ تتحول المفاهيم الكونية مثل الحريات العامة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان وغيرها، إلى مفاهيم أساسية في الفكر الإسلامي الحديث.
إن المعركة الأساسية التي من الضروري أنّ تخوضها اليوم النُخب السياسية والفكرية في المجتمع العربي الإسلامي، هي معركة التحديث السياسي والإصلاح الديمقراطي، وهنا يمكن الالتقاء مع رواد الحركات الإصلاحية عندما ركزوا نضالهم على مناهضة الحكم المطلق. لقد أدركوا في مرحلة مبكرة أنّه لا أمل في تجديد ديني، أو فكري، دون تحديث سياسي. ونجد أنفسنا اليوم بعد مرور قرنين من الزمان تقريباً أمام الإشكاليات نفسها، بالرغم من تغيّر الزمان، فلا أمل في الخروج من التخلف وإنجاز تقدم حقيقي دون إصلاح ديمقراطي جذري.
21/1/2025