التنوير ومتطلبات العصر
محمد أنجيلة:
التمسّك بالموروث يعني أمرَين:
1_ أموات هم أحياء
2_ أحياء هم أموات
نحن مجتمع ماضوي ذكوري.. لا تتحمل ذاكرتنا إلا السير الشعبية وحكايا البطولات الخلبية، نسعد عند تكرارها، آفاق تفكيرنا تتوقف عند حدود العلمنة وإنجازاتها.. لكننا نستخدم مشتقات العلم الحديث للتسلية واللهو.. والاستثمار. إدراكنا يتوقف عند التمتع بالحياة الجنسية.
عجبت من بعض الأشخاص يحملون شهادات عليا، يجلسون كالنعامات يهزّون رؤوسهم موافقين أقوال بعض أشباه الأميين يتمتمون مثلهم مدّاحُون لسير الخلف الصالح، يجترّون الماضي ويعيشون وهماً جميلاً لا يلبث أن ينقشع عند حدود الواقع.. حتى هزائمنا نحكيها انتصارات.. خيباتنا معجزات.. كلمة واحدة في التجديد التنويري سينهال عليك الكثير من التراب.
من لا يستطيع الخلاص من إرثٍ بالٍ مرّ عليه قرون طويلة ومازال يعيش على أوهام تلك الحقبة وانتصاراتها سيدفنه التاريخ وستلفظه الحضارة.
رغم كل هذا الألم فإن أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد!
مفهوم عصر التنوير؟
برز عصر التنوير، المعروف أيضاً باسم (عصر المنطق)، وهو حركة فكرية، وفلسفية هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوربية خلال القرن الثامن عشر. انبثق عصر التنوير عن حركة أوربية فكرية علمية معروفة باسم حركة (النهضة الإنسانية).
التنوير واللحظة الراهنة
ربما تغيب عن الأذهان تلك العلاقة التناسبية الطردية بين عملية التنوير والمكننة.
إشاعة المعرفة والتطور التكنولوجي في البلد هي بحد ذاتها عملية عقلية تطويرية باتجاه الأفضل. فاختراع الكهرباء قضى على الكثير من مقولات الجان والعفاريت. العملية التنويرية بمجملها متناسبة مع الارتقاء التكنولوجي والرقمي والحداثي. فالمنعكسات هنا هي علمية وعملية للواقع الموضوعي.
فالمرجل البخاري شكل انعطافة تقدمية في تطور المانيفكتورة الصناعية والتجارية. فإشاعة الصناعة تعني إشاعة المعرفة، والتطور التكنولوجي يترك آثاره المباشرة في التطور العقلي والنفسي والاجتماعي والثقافي للفرد.
والتنوير يعني إشاعة المعرفة بكل صنوفها وأنواعها. والنتيجة تكون رفع السوية العلمية والنقدية وبالتالي غياب الجهل والتخلف وتراجع الفكر المتشدد والتكفيري.
أيضاً هناك العمل على تجديد الخطاب الإيديولوجي أيّاً كان نوعه. ولا ينحصر في التجديد للخطاب الديني. وعندما نتحدث عن التجديد، فإننا نقصد هنا العملية العلمية والنقدية لكل ما يساهم في توفير فرص النماء والتطور للمجتمع.
أي إنتاج للسياسات والبرامج والملفات المستقبلية عبر استشفاف مقتضيات المرحلة واللحظة الراهنة.
التنوير يعني فيما يعنيه تحفيز البنى العقلية الإنسانية.
أي الانتقال من ثقافة التكفير إلى ثقافة التفكير الإبداعي النقدي.
ماهي مهماتنا؟
ماهي أدواتنا وحجتنا وبرهاننا؟
بداية لن نتقدم خطوة واحدة نحو الحداثة إذا لم نعمل على توطيد ركائز للدولة الحديثة.
كيف ذلك؟
إنه علم الأخلاق، فهو رأس الحكمة وتاج العلوم والمعارف. فالظلم الاجتماعي والاقتصادي هو من يحفز الشعوب لردة فعل طبيعية على سوء الأوضاع. والعمل على تحسين شروط الحياة الإنسانية.
فالتنوير هو القاعدة التي سيقوم عليها البناء الفكري للنظام السياسي والاقتصادي والديني والأخلاقي في المراحل اللاحقة. لذلك لا بد من ثورة عقلية والأخرى تجريبية، وعندما نقول علم الأخلاق رأس الحكمة وتاج العلوم والمعارف، فنحن هنا نقصد الفلسفة بعمقها الحركي كشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها علم الطبيعة، وأغصانها بقية العلوم الكبرى، وهي الطب والميكانيكا والأخلاق العليا الكاملة.
التنوير والعلمنة
حقيقة لن تكتمل عملية التنوير التي هي حاجة وطنية ومسؤولية أخلاقية ومن الدرجة الأولى، إلا إذا اقترنت بعلمانية الدولة التي تفصل الدين عن الدولة والسياسة وتضع الجميع تحت مظلة واحدة، وهي مظلة قانونية حقوقية دستورية.
أيضاً التنوير هو حاجة مجتمعية في مناخ ديمقراطي متساوي الحقوق. يسهل فيه إشاعة المعرفة والتطور والتعريف بكل العلوم. طبعاً هنا لا نقصد فصل العقائد عن المجتمع، بقدر ما هي حقوق شخصية، ولا نذهب بها إلى التسيس. فالمجتمع الحداثي يبنى على الحدود الحقوقية والواجبات العامة.
إذاً، التنوير العقلي والنفسي والاجتماعي يحتاج إلى بيئة صحية سليمة.
وهنا نؤكد أن الخطوات ستكون متدرجة وتخضع للنقد العلمي والفكري وإنتاج السياسات والبرامج الجديدة، ولن تكون هناك سياسات ثابتة، بل متحركة ومناسبة زمانياً ومكانياً.
نحن الآن أمام مفترق طرق، فإما السير نحو الحداثة المتطورة قانونياً ودستورياً واقتصادياً، وبالتالي دولة حقوقية بكل ما تعنيه الكلمة، أو سنغرق في متاهات الموروث بكل ألوانه وصنوفه الماضوية التي لن تقدم أية إضافة إيجابية لمجتمع يترنح تحت ضربات ماضٍ مجيد وهميّ متزنراً بسدنة هياكل يعتبرون أنفسهم أوصياء الله على الأرض.
إنها معادلة التحدي أمامنا، والحياة لا تحب الضعفاء والمساكين، وهذا ما تعلمناه من الحياة الإنسانية.