
الشباب السوري في مهبِّ رياح التيه والفساد
إيمان أحمد ونوس:
يُعدّ جيل الشباب من أهم مكوّنات المجتمع والدولة على السواء، ذلك أنهم يمثلون القوة والحيوية التي تتطلّبها مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وسواها من مجالات لا يمكن لغير الشباب الاضطلاع بها بحكم مرونة الفكر والتفكير التي يتميّزون بها والرغبة القوية للبحث والتقصّي باتجاه المعرفة، إضافة إلى سرعة التعلّم والاستيعاب، وبالتالي سرعة اكتساب المهارات المطلوبة.
لذا، يشدّد خبراء العلوم الاجتماعية والنفسية على أهمية بناء الشخصية الوطنية التي تؤمن بقيم التوازن والتناغم والعطاء، وضرورة الأخذ بيد الطاقات الشبابية الواعدة، وتوفير الرعاية التي تدعم الجهد الخلاّق والعطاء المُتجدّد لديهم.
وحين تُجيد الحكومات استغلال تلك الخصائص الشبابية، فإنها تسعى بالتأكيد لخلق البيئة والمناخ الملائمين لكل ما يحتاجه الشباب خلال بناء الشخصية واكتسابها المهارات المطلوبة والمرغوبة من قبل الشباب أنفسهم، وبناءً عليه ترسم تلك الحكومات خططها واستراتيجياتها على المديَين البعيد والقريب، من أجل إنجاز المهام الملقاة على عاتقها كافة استناداً إلى الشباب الساعي للعمل والعطاء وإثبات الذات، سواء من خلال إفساح المجال أمامهم في البحث العلمي الجاد، أو بتقديم كل التسهيلات المطلوبة ليكونوا حاضرين ومشاركين بقوة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية منها بخاصة، إذ من المفترض أن يكون الشباب مساهمين في وضع الخطط والاستراتيجيات المتعلّقة بهم أولاً وبالمجتمع ثانياً. حينئذٍ سنجد أن الشباب سيندفعون بكل طاقاتهم الفكرية والعضلية والمعرفية للإبداع والعطاء، ما ينعكس عليهم وعلى المجتمع تطوراً ورخاءً وازدهاراً.
لكن، ولأننا ما زلنا نعيش تبعات حرب استمرت أكثر من عقد من الزمن، بكل ما فيها من أنّات وآهات رافقت كل ويلاتها وطالت الجميع بلا استثناء، لكن حصّة الشباب كانت الأكبر فيها لأن بعضهم استُشهد والبعض الآخر اختُطِفَ أو اختفى لأسباب ما زالت مجهولة حتى اللحظة، والبعض منهم ركب موجة السفر والهجرة خلاصاً من واقع لم يعد محتملاً بالنسبة لهم.. والباقي من شبابنا اليوم يئنُّ صباحاً ومساء تحت وقع البطالة والغلاء وارتفاع أجور السكن والدراسة وغيرها من مستلزماتهم الضرورية لبناء مستقبلهم الذي رسموه بأفكارهم وخطّطوا له، فبات حلماً صعب المنال أمام كل ما ذكرناه.. حتى أمسى غالبية أولئك الشباب تائهين ما بين واقع مرير وقيم تبنّوها لم تعد تتوافق وهذا الواقع الذي فرض عليهم قيماً جديدة لا تتناسب وما يحملون أو يحلمون، أو يؤمنون، ذلك أن الفساد الذي استشرى خلق وأشاع الكثير من قيم التفاهة والزيف واستسهال الكسب غير المشروع من خلال أعمال لا يمكنها أن تخرج من تصنيف النصب والاحتيال، أو من خلال مهنٍ لا إنسانية كالتسوّل والدعارة التي باتت هي الأخرى حاضرة وبقوّة وكأنها أمرٌ طبيعي غير مُستهجنٍ أو غير مُشينٍ أو غير مرفوض، أو بالأحرى لا يمكن أن يكون مرفوضاً لاستحالة أو ندرة الفرص الأكثر إنسانية بالنسبة للجنسين معاً، فقد بات الذكور من الشباب يلجؤون لتسهيل تلك المهنة للكثير من الإناث اللواتي لم تجد غالبيتهن العمل المناسب للبقاء على قيد إنسانية وحياة باتت بالنسبة لهنّ تحصيل حاصل من جهة، ومهنة تؤمّن لهن بعض احتياجاتهن التي يتطلّبها عمرهن التوّاق لكل جديد من موضة وأزياء ومقتنيات تكنولوجية باتت ضرورية بنظرهن. أما بنظر الشباب الذكور فهي تُدِّرُّ عليهم دخلاً مقبولاً مثلما هي مجال رحب وحرّ لتلبية احتياجاتهم النفسية والعاطفية والجنسية بسبب عدم قدرتهم المادية للإقدام على الزواج في ظلّ الغلاء الذي طال كل احتياجات المؤسسة الزوجية وإنجاب الأطفال.
ورغم هذا الواقع، هناك شباب من الجنسين يرفضون بشكل قطعي العمل بمثل تلك المهن حتى لو نهشهم الفقر والجوع، باقون على قيد انتظار فرص أكثر إنسانية تُحقّق لهم طموحاتهم مع أنهم يشعرون بتلاشيها شيئاً فشيئاً أمام حصار البطالة أو المحسوبيات والفساد الذي قيّد العمل في كل القطّاعات- الخاصة أو الحكومية- بشروط مُحدّدة تتناسب مع مريدين مُحدّدين يأتمرون بأمره ويلبون سطوته الفارهة والفارغة والخالية من أيّة قوة حقيقية تؤهله للإمساك بزمام أمور البلاد والعباد. وهنا نُدرك حقيقةً عمق معاناة شبابنا الذين رفضوا السفر أو لم تساعدهم الظروف المادية عليه، معاناة دفعت بغالبيتهم إلى متاهات أشدّ ضراوة من الدعارة أو النصب والاحتيال، لعلّها متاهات المخدّرات إذ بات أولئك الشباب وقود تجارتها التي فاقت بحضورها المُستتر حيناً والمُعلن أحياناً أكثر أيّة تجارة أخرى بالنسبة لأثرياء الحرب الطفيليين، أو لأولئك التجّار الذين وجدوا في كل هذا الواقع فرصة لا تفوّت لزيادة مشاريعهم واستثماراتهم الوهمية حيناً والواقعية أحياناً نادرة، لرفع نسب أرصدتهم التي ما تكدّست إلاّ على حساب أحلام وطموحات شبابنا التي اغتالتها تلك الحرب العبثية وأهدرها الفساد الذي استشرى وتطاول حتى طغى على كل مفاصل الحياة، وقرارات الحكومات التي لم تُصغِ يوماً لا لأحلام وتطلّعات الشباب وحقّهم المشروع في المشاركة بالسياسة العامّة للبلاد، مثلما لم تُصغِ لأنينهم المكبوت الذي ارتحل بهم إلى عوالم مؤذية وقاتلة لتلك الطاقات المهدورة التي لو وُظِّفَت واستُثمرت بالشكل الأمثل لتمكنّا ولو بالحدود الدنيا من إعادة إعمار ما دمّرته الحرب مادياً ونفسياً وقيمياً، فهل تعي حكوماتنا أهمية وجود الشباب ودورهم، وطاقاتهم الخلاّقة في مختلف المجالات بدل أن تكون طاردة لها، فتُعيد لهم بعضاً من حقوقهم المهدورة على أعتاب البطالة والفساد وإهمالهم المتعمّد في كثير من الأحيان ليكون لشعار إعادة الإعمار ألقه الحقيقي والفعّال؟؟