العنوسة سمة عصرية ولكن!
لا يخفى على من يهتم ويدقق في ظاهرة العنوسة أنها تكاد تكون سمة من السمات التي تلاحق النساء في عصر الحداثة وما تلاه إلى اليوم، ونجدها (العنوسة) تلازم فتيات المدن بنسبة لا تقارن مع بنات الريف.. من كون أن حياة الريف تُسهّل عملية التواصل الاجتماعي المنقطعة في المدن، إذ نجد في بعض الحارات في المدنية أن الجار لم يعد يعرف جاره، وتنعدم الزيارات إلا من الأقارب، وهذا الحال بات يغلب اليوم على حياة المدينة التي تُبنى عليها كثير من مجتمعاتنا.
في تناول ظاهرة العنوسة ومشاكلها الظاهرة والمتخفية، أجد أنه علينا أن نفرق بين نوعين من العوانس: النوع الأول هن الفتيات غير الراغبات في العنوسة، والنوع الثاني هن الفتيات اللواتي اخترن طريق العنوسة بإرادتهن (سواء بصورة واعية أو بغير وعي منهن)
وتبعاً لهذا التصنيف نجد كيف أن مشاكل الفتيات من العوانس تتباين، اذ يلاحظ أن الفتيات استسلمن للعنوسة من دون مقاومة، بمعنى عدم تراجعهن عن مستوى الاختيار للزوج من حيث عدم الاقتناع بالتنازل عن مواصفات معينة للارتباط بالزوج مهما كانت التبعات، وبالتالي نجد أن قبول خيار العنوسة لديهن أفضل من الارتباط بزوج بدائي يخفض مستوى الطموح عندهن، ويفقد حياتهن المعنى الذي سعين جاهدات للعيش بمقتضاه، من خلال التّعبير عن الذات وإشباعها بالمزايا التي كونتها هؤلاء الفتيات لأنفسهن، وهذا الأمر ينقذهن من السقوط في بئر اليأس والقنوط والاكتئاب.
فحين تجد الفتاة العانس مسارات ذات معنى لحياتها تصبح أكثر مناعة ضد تلميحات المحيطين بها وتصريحاتهم، وضد تعليقاتهن على عدم زواجها، وتتغلب على نظرات الشّفقة أو الشّماتة الصّادرة من هنا وهناك، فالفتاة التي تجد المعنى لحياتها دون زواج تصبح أكثر تأكداً من طريقها وخياراتها، وتصبح أكثر قوة في مواجهة الحياة دون رجل سواء كانت هذه الحياة باختيارها أو رغماً عنها..
أما الفتيات غير الراغبات في العنوسة، فنجدهن يحتجن لمراجعة أشياء كثيرة في حياتهن، وفى أنفسهن مثل: حضورهن الاجتماعي من خلال وجودهن في المناسبات العائلية والاجتماعية، وترددهن على الأماكن التي تجعلهن على صلة بالروابط الاجتماعية، فنجد أنهن يكثرن من وجودهن في دور العبادة أو الأندية الرياضية أو الثقافية، للواتي لديهن التحصيل العلمي العالي، وأيضاً نجدهن يكثرن من الأنشطة الطوعية في الجمعيات الخيرية أو حتى نشاطات المجتمع المدني في السنوات الأخيرة.. إلخ كل ذلك بهدف توسيع دائرة تفاعلاتهن الاجتماعية وإغناء الفرص باختيار شريك الحياة.
وفقاً لعالم النفس فيكتور فرانكل في نظريته حول العلاج بإحياء المعنى، الذي يمكن تلخيص هذه النظرية: بأن من يجد معنى لحياته هو الأكثر سعادة واستقراراً، والأكثر مقاومة للاضطرابات العضوية والنفسية، وعلى العكس فإن من يفتقد المعنى يسقط في قاع الحياة، ويصاب بالكثير من اضطرابات في الجسد والنفس.
ولكن عيش نظرية العلاج بإحياء المعاني غير متحققة تماماً في مجتمعنا نظراً للفضول، ونقص الحريّات الشّخصية، والأهم النظرة القدسية للزّواج والأمومة من منظور الأديان السّماوية والنسب العائلي، لذلك ومن هذا السّياق أركز على أن الرعاية النّفسية للعوانس من الجيد أن يرفق المجتمع بها، ويحترم خياراتها، ولا يوجّه لهن اللوم، ولا يؤذيهن بالكلام المشين لأنوثتهن، وأن يساعدهن على أن تكون حياتهن ذات معنى، وعلى تعويض الحرمان من الشّريك بفتح آفاق واسعة للنجاح والمشاركة والتّفاعل الاجتماعي الصّحي في مجالات الحياة الغنية والعديدة التي من الممكن أن تسهم في تحقيق التوافق والاستقرار..
ومن السّمات النّفسية التي تميز العوانس في بلادنا على العموم ولاسيما اللواتي لم يعشن خيارهن بالارتباط المناسب لطموحاتهن: نجد لدى الكثيرات من العوانس من يلقين باللائمة على رجال المجتمع الذين أعرضوا عنهن، ويشعرن بالغيرة من بنات جنسهن المتزوجات، ولهذا ينظرن إلى المجتمع نظرة حسد وحقد وكراهية، يعبرن عن ذلك بسلوك عصبي وعدواني تجاه أفراده. إضافة إلى العزلة والانطوائية، إذ نجد أن الكثير من الفتيات العوانس تلجأن إلى هذا النوع من العزلة الاجتماعية استجابة لردات فعل تعرضن له مثل ملاحقة الأنظار للفتاة العانس، ومجاملة الناس لها بتمني زواجها وكثرة ترديد ذلك على مسامعها، كل ذلك يسهم في دفعها للهرب من مواجهة الناس، وتفضيل مصاحبة من هم في مثل وضعها على المشاركة العامة في المجتمع.
من أهم العوامل التي قد تكون سبباً في تكريس ظاهرة العنوسة:
– غياب الجو العاطفي وروح التعاون الذي تفتقده العوانس في الغالب.
-الانجرار نحو العلاقات غير الشرعية لسد تلك الرغبات التي لم يسدها الزواج.
-إثقال كاهل الأب بالإنفاق ورعاية البنات إلى أن يعجزن ويكبرن.
– انخفاض نسبة المواليد الذكور، وغياب النسل في المجتمع.
-انتشار الحسد والحقد والغيرة بين المتزوجات وغير المتزوجات.
– الشعور بالكآبة واليأس والوحدة وغيرها من المشاعر السّلبية لدى العانس.
– كما أن عامل عزوف الشّباب عن الزواج بسبب الحالة الاقتصادية المنخفضة والمغالاة في المهور المرتفعة يعد سبباً جوهرياً يُضاف إلى عدم الإقبال على الزواج لكلا الجنسين.
كل هذه الأمور تسبب مشاكل نفسية للفتاة تدفعها إلى حالة من الاكتئاب والعزلة.
إن مشكلة العنوسة وما يصاحبها من تغيرات وسلوكيات تحولت إلى ظاهرة تزداد مع مرور الوقت مسببة مجموعة من الآثار السلبية على المجتمع ككل..
– فإذا لم تحسن الفتاة التعامل مع وضع العنوسة فإن الانتظار الطويل قد يعرضها إلى مجموعة من الآثار السلبية تختلف في حدتها من فتاة إلى أخرى..
– غياب ثقافة تشجيع الزواج والحث عليه وفهم حاجته وضرورياته بأسس تنسجم مع الوعي الحضاري والعيش في الزمن المعاصر بتبسيط وتكيّف عملي بمقتضى الحاجات المعاصرة للجنسين اليوم ضمن قيم المجتمع التي يلزم لها بعض المرونة مع الاحتفاظ بجوهر المحتوى.
ولا تفوتني الإشارة إلى أن استمرار الحروب في بلداننا وتناقص عدد الشباب ممن هم في سن الزواج أو في عمر الرجولة الناضجة لا سيما في السنوات الخمس الأخيرة قد أبرز هذه الظاهرة إلى العلن، وأبرز معها مشكلة الزوجات الأرامل بكل ما يغلف هاتين الظاهرتين من قسوة على المرأة وتدني فرص العيش الأسري، إضافة إلى بروز ظاهرة الطلاق، وهذا من الآثار التي لا يمكن التغاضي عنها وكأن لوسة الجنس الماجن غير الملتزم باتت سمة للرجولة التي ساهمت الحرب في إخصائها عند الرجال، إذ إن الحرب خيبت الآمال وكرست ضيق الأفق، ليحل محل ذلك اللامبالاة وسخافة السلوك لدى الكثير من رجال اليوم البعيدة عن مزايا الرجولة الحقّة.