العلمانية في الدستور والقانون السوري

 لأن الإنسان مساهم في كل أشكال التطور التي عرفتها وتعرفها البشرية حسب مقتضيات التطور والتقدم الذي حدث في مجال العلوم بشقيها الطبيعية والاجتماعية ما ساعد على ظهور العلمانية وانتشارها مرتكزاً على تراث عريق من محاولاته المستمرة لفهم الكون المحيط به، وبالتالي كانت فكرة العلمانية أو الدولة أو فكرة الدين هي أفكار اجتماعية لا وجود لها خارج ثقافة المجتمع ولا توجد من دونه. وهذا له علاقة بواقع التطور الاقتصادي والثقافي للمجتمع بذاته، ومن هنا تنبع خصوصية كل مجتمع حسب اختلاف ثقافاته وبالتالي تعكس شكل الدولة وماهيتها.

من هنا تتباين أو تتفق منطلقات العلمانية تبعاً لبيئة المجتمع وفهمه لكل التطورات التكنولوجية والعلمية التي يتغلب فيها العلم على الخرافة في عقول الناس وطريقة تفكيرهم واستجابتهم لقوانين التغير التي تمليها الحتمية التاريخية للمصالح والرغبات الإنسانية. فالعلمانية مشتقة من كلمة عَلم أي بمعنى العالَم العامة أو الشعب ولا صلة لها بلفظ العلم ومشتقاته مطلقاً،وهي تدل على الاهتمام بالقضايا الأرضية أي الدنيا المادية دون النظر إلى العالم الروحي التي تحكمه الغيبيات.

وأوضح تعريف أعطي للعلمانية هو ذلك الذي ورد في مناقشات المجلس الفرنسي لدستور 1946 حيث جاء فيه: (العلمانية هي حياد الدولة تجاه الدين كل الدين) وبذلك فإن العلمانية تقر بحرية المواطنين الدينية، والدولة بذلك ترفض الدعوة إلى انتحال أي دين كما ترفض الدعوة للإقلاع عن أي دين، فهي تمكّن المؤمن من ممارسة شعائره وعباداته ولا تفرق بين المواطنين على أساس انتمائهم وترضى بالواقع الديني كما تحدده وتنظمه الأديان نفسها. هذا ما جاء به إعلان حقوق الإنسان، إذ لم ترد الإشارة إلى الدين، بل أعلن عن الحرية والمساواة بين كل الناس بما في ذلك المعتقد الديني.

وعلمانية الدولة بتحويلها إلى دولة خدمية أي صياغة الدستور والقوانين تهدف إلى خدمة المواطن والمحافظة على وجوده وكل ما يتعلق بذلك الوجود المادي والمعنوي دون التمييز في الحقوق بين المواطنين على حساب الدين أو العرق أو اللون أو السن أو الوظيفة الاجتماعية.

لذلك استلهم المشرع السوري في صياغة قواعده الدستورية منهجاً توفيقياً بين مفهوم العلمانية المجردة والاتجاهات التقليدية المحافظة، بما يحقق التنوع الفكري والثقافي والعقائدي للمجتمع السوري.

فقد نص الدستور السوري لعام 2012 في المادة 3 على أن :

(1- دين رئيس الجمهورية الإسلام -2- الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع -3- تحترم الدولة جميع الأديان وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على أن لا يخل ذلك بالنظام العام -4- الأحوال الشخصية والطوائف الدينية مصونة ومرعية).

ونصت المادة 9 منه على: (يكفل الدستور حماية التنوع الثقافي للمجتمع السوري بجميع مكوناته وتعدد روافده إلخ…).

وأيضاً ما نصت عليه المادة 42 منه: (حرية الاعتقاد مصونة وفقاً للقانون)، وذلك لتأكيد فصل الدين عن الدولة ولتعزيز مبدأ سيادة القانون والمواطنة وبالتالي سيادة العلمانية في بلد يعج بالتنوع الاجتماعي.

فالعلمانية تقوم على مبدأين أساسيين هما جزء من مبادئ حقوق الإنسان، وهي الحرية الدينية والمساواة، وهذا أيضاً ما أقره الدستور السوري في المادة 33 منه (1-الحرية حق مقدس إلخ… -2-المواطنة مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتع بها كل موطن ويمارسها وفق القانون -3-المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات لا تميز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أول اللغة أو الدين أو العقيدة)، وذلك لتعزيز مبدأ الدين لله والوطن للجميع لترسخ قواعد التواصل الإنساني بين أبناء المجتمع السوري المتنوع حتى لو كان هناك اختلاف في الرأي، لان هذا الاختلاف ينهض بالمجتمع والإنسان ويوسع مداركه وفيه إثراء للوجود الإنساني.

فتطبيق العلمانية يكفل، إضافة إلى حقوق المواطنة المتساوية، الحريات المطلقة على إلا تتعارض مع حرية الآخر، ويكفل حماية كرامة الإنسان وأمنه واحترام حقوق المرأة والطفل المنصوص عليها في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. لذلك تعتبر العلمانية عاملاً من عوامل التحرر من القيم المتخلفة المنبثقة عن سيادة الفكر الخرافي، فهي ترفض كل ما لا يستطيع العقل البشري إدراكه أو إدراك آثاره كالبعث أو الحساب بعد الموت. لأنها تقوم على نشر العلم والمعرفة الفلسفية والفكرية.

ولكن، بسبب عدم امتلاك المجتمع السوري الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي والرفاه الاقتصادي والتطور المعرفي والثقافي، أدى ذلك إلى وقوع بعض أفراد المجتمع في التباسات مفهومية وفكرية لا يمكن التخلص منها إلا إذا أخذت الدولة على عاتقها المقاربة النقدية والمعرفية لتراثها الثقافي وأنظمتها السياسية، وذلك من خلال التمسك بالمبادئ الإنسانية الأخلاقية وتطوير البنى الاقتصادية والثقافية الاجتماعية والسياسية ودفع عجلة التربية والتعليم على كل المستويات لتحقيق التنمية المعرفية المستدامة بالقضاء على الجهل بكل أشكاله المعرفية والقانونية والسياسية والحقوقية للوصول إلى أفراد مثقفين يصونون سيادة القانون والمنظومات القضائية، وتفعيل دور وسائل الإعلام بكل اتجاهاته في نشر ثقافة العلم والتفكير العلماني وتعزيزها في المجتمع.

العدد 1140 - 22/01/2025