باحثة لبنانية توثق للشعر الروسي في عصره الفضي
صدر للباحثة والناقدة اللبنانية زينات بيطار، عن دار (نلسن السويد) في بيروت، كتاب بعنوان (العصر الفضي للشعر الروسي)، جاء في (364 صفحة من القطع المتوسط) وبلوحة غلاف للفنان الروسي (لينتنوف). وهو عبارة عن دراسة توثيقية مهمة، تشمل معلومات جديدة تثري معرفتنا بالأدب الروسي وتعمقها.
وتشمل تسمية (العصر الفضي للشعر الروسي) الفترة الواقعة بين (أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين). وهي الفترة التي لا تشمل شاعر روسيا الأكبر والأعظم (ألكسندر بوشكين) بل تشمل عدداً من الشعراء عاصر معظمهم (ثورة أكتوبر).
أما أسماء هؤلاء الشعراء المترجَمين إلى العربية فإن من بينهم: (ألكسندر بلوك، بوريس باسترناك، أوسيب مندلشتام، آنا أخماتوفا، مارينا تسفيتايفا). وفي اجتماع هؤلاء الشعراء في كتاب واحد يشكلون أنطولوجيا غنية لحقبة زاهية من حقب الشعر الروسي المعاصر.
وقالت زينات نصار في مقدمة دراستها: (إن تسمية العصر الفضي لهذا الشعر تطلق… كمصطلح أدبي على حقبة ازدهار الشعر والثقافة الروسية عموماً، الواقعة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وهي غالباً ما تشمل الشعراء الذين برزوا ما بين (عامي 1885 و 1925م)).
وأضافت تقول: (أما إطلاق التسمية (العصر الفضي) كي تتميز عن حقبة (العصر الذهبي) للشعر الروسي. فمن المعلوم أن (العصر الذهبي) يرمز إلى إبداع شعراء وأدباء كبار في القرن التاسع عشر أمثال ألكسندر بوشكين (1799 -1837) وميخائيل ليرمنتوف (1814- 1840) ونيكولاي فاسيفليفيتش جوجول (1809- 1852) وغيرهم. لذلك أطلق مؤرخو الأدب والفن الروسي تسمية (العصر الفضي) على مرحلة عبور الأدب الروسي من (العصر الذهبي) بمعطياته الفكرية والفنية الكلاسيكية نهاية القرن التاسع عشر، إلى عصر جديد بمعطياته الحداثية (الرمزية – القممية – المستقبلة – الأفنجاردية) وقيمها الفكرية والسياسية والاقتصادية).
وأضافت بيطار: (في تلك الفترة لم يقف الشعر أمام التحولات التراجيدية الكبرى في المجتمع الروسي والأوربي موقف المحايد أو المتفرج أو المنتظر لانقشاع غيوم التغيير، بل ساهم الشعر والشعراء في قلب موازين القيم المتصارعة فكرياً، وفي خلق مناخ ثقافي جديد متصل بما يعتمل في قلب الثقافة الأوربية من تحولات فنية – فكرية حداثية).
وتابعت الباحثة والناقدة اللبنانية أن (من أهم خصائص العصر الفضي في الشعر الروسي التي ميزته عن العصر الذهبي أنه أدى إلى تغيير الواقع الأدبي الروسي وتغيير التشكيلات الاجتماعية والطبقية للأدباء الروس وتغيير الكاتب كشخصية معنوية.
أما الأبرز في هذا السياق فهو التغيير في الاتجاه الفني بما يقتضي المعطى الشكلاني الذي استحوذ على حركة الحداثة. آنذاك ظهرت تيارات متنوعة: جمعيات أدبية وفنية.. منتديات فكرية.. مجلات أدبية.. دور نشر متخصصة.. تعاضد في تبلورها الأدباء والفلاسفة والفنانون التشكيليون، وبات الشعر يومذاك ملعباً رحباً للموتيفات الفنية التشكيلية والصور الرمزية ذات التكوين الفني البصري. أصبح الشاعر كأنه يرسم بالحرف والكلمة والقافية، وغدت القصائد لوحات فنية بصرية – سمعية مكتظة بالإيحاء والدلالة والتعبير).
وتميل المؤلفة إلى اعتبار حقبة العصر الفضي للشعر الروسي، مرحلة النهضة اليافعة للثقافة الروسية، إن على صعيد الأدب، أو الفن التشكيلي والمسرح والموسيقا والرقص. وهنا أسهمت الترجمات في الانفتاح على الثقافة الأوربية في القرن التاسع عشر، واستمالت العديد من الشعراء الشباب الذين انشغلوا في البحث عن لغة شعرية جديدة .
وتتابع بيطار في دراستها، رصد التحولات التي لامست الأدب الروسي، وتحديداً الشعر منه، والذي برز مؤثراً وقادراً على ابتكار لغة خاصة، تنهل من النَّفَس الغنائي الذي طبع شعر تلك المرحلة. وتشير إلى انه من أبرز الذين شكلوا جيل الرمزيين الأول: (قسطنطين بالمونت، وفاليري بريوسف، وف. سالاغوب).
وتذكر الباحثة زينات بيطار، على سبيل المثال، أحد أبرز منظري الرمزية الروسية: قسطنطين بالمونت (1817-1942)، الذي كان له دور طليعي على صعيد ترجمة النتاج الشعري لأهم الشعراء الرمزيين العالميين، إلى اللغة الروسية، كأشعار وليم بليك (مبدع مؤسس لمنهج الرمزيين المعاصرين)، وكذا أشعار (بيرسي شللي) في عام ،1892 وأوسكار وايلد. إضافة إلى أشعار (شارل بودلير، وآرثر رامبو وإدغار آلان بو، وغيرهم من أعلام الأدب والشعر الأوربي الأمريكي والآسيوي.
وأما الجيل الثاني من الرمزيين الشباب الذين برزوا في بداية عام ،1900 أمثال أندريه بيلي وسيرغي سالافيوف وألكسندر بلوك وفيتشلاف إيفانوف، فهؤلاء رأوا في الفن، إعادة تكوين للعالم بروح فلسفة فلاديمير سالافيوف. وقد أتى هؤلاء باستعمالات لغوية جديدة، وبإيقاعات لفظية مختلفة.
وترى المؤلفة في مضمون النتاج الشعري لهؤلاء، تعالياً على صخب الواقع المادي، وتجاوزاً للملموس، ومن ثم قدرة على بلوغ فضاءات منفتحة على التاريخ والجغرافيا والحاضر المكتظ بمتغيرات العصر الحديث .
وحرصاً منها على تقديم صورة وافية عن النهضة الشعرية التي عرفتها روسيا في تلك الفترة، توجز المؤلفة، في ما يشبه السيرة، مختلف المفاصل الأساسية التي أطلقت القصيدة، وأخرجتها من رتابتها، فتوردُ إنجازات الشعراء الروس التحديثية، وتذكر أهم أعلام تلك المرحلة .
وقد ذيّلت المؤلفة هذا الكتاب بدراسة قصيرة ولكن متكاملة، لتلقي الضوء على ألكسندر بوشكين، الذي خصصت له صفحات الكتاب الأخيرة لتبيّن مدى تأثيره على كل أولئك الشعراء الذين أتوا من بَعده، لتشير إلى البصمة العميقة التي خلفها في كل واحد منهم. عملٌ فيه مجهود بقدر ما فيه فنٌ، وفيه نوعية وانتقاء جيد.
ولا تغيب عن محاور الاستهلال في الكتاب،تأكيد حقيقة وأحكام جوهرية تستند إلى وقائع تحليل علمي منهجي، مفادها أن الشعراء الروس في المرحلة الانتقالية الخاصة بالتحول من الكلاسيكية إلى الحداثة، والتي عرفت ب(العصر الفضي الروسي)، لم يقفوا على الحياد من التحولات الفكرية والتراجيدية الكبرى التي عرفها المجتمع الروسي والأوربي في نهاية القرن التاسع عشر، بل ساهموا مساهمة نوعية في خلق سياقات مناخ ثقافي جديد، وقيم فكرية وسياسية واقتصادية منسجمة مع روح العصر، ومتناغمة مع ما شهدته الثقافة الأوربية من تحولات فنية، فكرية حداثية.
ولا تكتفي (بيطار) بترجمة قصائد أولئك الشعراء الكبار، بل أعطت هذه الترجمة بعدا أعمق إذ قدمت كل شاعر قبل ترجمة القصائد، في كلمة مسهبة وعميقة، لمحة عن حياته الأدبية، كتابته، أسلوبه، سيرة مطولة وموجزة في الوقت ذاته، إضافة إلى صورة فوتوغرافية لكل شاعر ترافق المقدمة والقصائد، والصورة مفيدة جدا في الأنطولوجيات إذ تسمح للقارئ أن يربط بين القصيدة وملامح كل شاعر على حدة من حيث نظرته وشكله وهذا عنصر لا يجب إغفاله، كي لا تبقى الكتابة مجردة عمن كتبها.
وتخبرنا المؤلفة كيف تمرّست على اللغة الروسية من خلال قراءتها الأدب الروسي بشغف من يكتشف كنزاً في غربتها الروسية خلال سنوات إقامتها الطويلة هناك، بل هو الكنز الذي (طرّز حواشي أيامها) في تلك البلاد، كما تقول. فهي التي أقامت سنوات عدة في روسيا حيث أكملت دراساتها، شاءت في نهاية المطاف أن تكون صلة الوصل بين اللغة والثقافة العربيتين والروسيتين، فقدمت لنا هذه الباقة أو المجموعة المهمة من الشعراء الروس الذين يمثلون الحداثة الروسية الأولى.
الكتاب: العصر الفضي في الشعر الروسي.
تأليف: زينات بيطار
الناشر: دار (نلسن السويد) لبنان 2012 م.
الصفحات: 364 صفحة.
القطع: المتوسط.