تجديد ذكرى طه حسين
(1)
(كان مبصراً في ليله أكثر منا في نهارنا)
في التاسع والعشرين من تشرين الأول عام 1973 رحل المفكر والمنوِّر والسياسي والأديب والمثقف، الدكتور طه حسين، ولا تزال الأسئلة الكبرى التي أثارها والمنهج الذي اتبعه تحتفظ براهنيتها، وربما تزداد إلحاحاً على المثقفين والمنورين العرب لعدة أسباب من أهمها:
1 عدم استكمال الأجوبة. 2 تقدم المعارف واختلاف المنسوب المعرفي والعلمي للمثقف قياساً بما كان عليه وضع الثقافة وشمولها أيام طه حسين. 3 انكسار عصر النهضة، وإجهاض أسئلته، ومنها السؤال الرئيس: لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟ وحزمة من الأسئلة الأخرى كحرية الفكر وحق التعبير، وأصول الحكم، وتداول السلطة، وتعدد المناهج، والديمقراطية، مفتاح كل المشكلات التي ارتبطت بوجودها حالات الصعود، وكان غيابها سبباً من أسباب السقوط والتراجع.
ثمة أسئلة لا تعرف التقادم، تبقى حية على مر الأزمنة، أما الأجوبة عنها فتتغير بتغير المعارف والأدوات والمناهج البحثية، وما توفره العلوم الحديثة ووسائلها المتقدمة… أسئلة الدكتور طه حسين كدلالة لا كتعيين تمتلك معاصرتها لاستنادها إلى مفهوم (ترهين التاريخ)، وكيف نقرأ الحاضر؟ وماذا نأخذ من الماضي؟ /مواجهة التراث، مسألة النقل والعقل، التفكير النقدي/. كل ذلك لخدمة المستقبل وكيفيات بنائه، كي لا يحكم الأموات الأحياء.
اختار العميد أسئلة إشكالية في التاريخ والثقافة والأدب والفكر والسياسة، وخاض معارك متنوعة، وتحمل مسؤوليات كبيرة أفرزت خصوماً وأنصاراً تابعوا طريقه ومنهجه، فتكاثرت الأبحاث وتعمقت الطرائق، وانفتح الفكر، وتنوعت الاتجاهات، وبقي أن تجد ما يوحد الإيقاع، ويؤلِّف بين الأصوات في جبهة ثقافية واحدة، أساسها التنوع، ورابطها حق الاختلاف، ومرجعيتها تأصيل وتفعيل مبدأ الوحدة في التنوع، لمجابهة أصولية ظلامية زاحفة مستندة إلى ثقل موروث تاريخي متخلف، ومساندة خارجية متواطئة، والهدف تحطيم ما أنجزته الثقافة العربية، بإعادة المنطقة إلى ما قبل العصور الوسطى، تلك القوى هي التي حاربت طه حسين بالأمس، وطالبت بإعدامه عام ،1926 السبب إصدار كتابه (في الشعر الجاهلي) وطعنت نجيب محفوظ وفرقت بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، واتهمت عادل إمام، وطعنت بشرف إلهام شاهين، وما زالت تحارب وتكفّر وتستعدي أمثالهم، ذاهبة إلى حدود الاتهام بالعمالة والارتهان والتخوين، إضافة إلى التهمة القديمة المتآكلة بالزندقة والخروج عن حدود الدين، وكأن الدين قد فُصِّل على مقاسهم ومقاصدهم ورؤيتهم الضيقة للحياة والمجتمع.
(2)
طه حسين أكثر من متنور ومنوّر، لأنه جمع بين أعمق وأهم ما في التراث وأحدث ما فيه المعاصرة (الحداثة)، فهو ثوري حتى ولو غضب بعض من يعتقدون أن الثوري لا يمكن إلا أن يمتلك نظرية ثورية ومنهجاً ومرجعية فكرية محددة، ألم يكن منهج طه حسين ثورياً، بقلبه ما كان يعتقد بأنه حقائق لا يمكن المساس بها؟ فهو أول من وضعوا المقدس في امتحان أمام الواقع، وتصدى لأهم مشكلة في تاريخنا العربي، وهي تاريخية الظواهر (تأريض السماوي) وإخضاعه لقوانين التاريخ، ومتغيرات الواقع، أو ليس هو من دعا إلى أن (عوامل التحول أقوى من مقومات الثبات)؟ حسبه أنه طرح تطبيقياً ونظرياً فك الاشتباك والتعالق بين اللغة من جهة، وبين المقدس من جهة أخرى قائلاً: (اللغة العربية في حاجة إلى أن تتحلل من التقديس، وهي بحاجة لأن تخضع لعمل الباحثين، كما تخضع المادة لتجارب العلماء). وهو من أوائل من رفضوا كل ما لا يقبله العقل، واتخذ الشك طريقاً إلى اليقين. فكان من الطبيعي أن يثير المتزمتين والظلاميين الذين أدركوا مرامي أفكاره وآرائه ومنهجه، لذلك هبوا بكل ما يملكون من قوة ووزن ديني إلى مواجهته، بينما لم يدرك أنصار التفكير العلمي والعقلانية أهمية الرجل إلا في وقت متأخر، لذلك (ودعهم بقليل من الأمل، وكثير من الألم)، ومع هذا كان على ثقة تامة بأنهم سيدركون في يوم ما ولو متأخرين أهميته ودوره الريادي التنويري الداعي إلى حرية الفكر وحق الاختلاف. وأنه كان معهم في خندق واحد ضد التجهيل وتزييف الوعي، ومع الانفتاح على ثقافات العالم القديم منها والحديث، فقد قال: (نحن في نهضتنا الحديثة النامية وفي تطلعنا إلى الغد المشرق نعمل ما في وسعنا للعمل على أن نعزز صلاتنا بالفكر الإنساني على تعدد آفاقه ونحاول ما وسعنا المحاولة أن نقاوم العزلة بجميع ألوانها ولنا من تراثنا التاريخي وطابعنا العقلي وقيمنا الفكرية، ما يحفزنا إلى ذلك، مع إيمان وعزم وإصرار).
(3)
لا نجافي الصواب إذا أطلقنا على عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين صفة المثقف الرسولي، الذي حمل عبء الكلمة، ومسؤولية الثقافة، ونادى بحق المواطن في العلم والمعرفة والحرية كحقه في الماء والهواء، وساهم في رسم مستقبل الثقافة الوطنية، وسار في طريق الآلام. فلو أن كل مثقف حمل صليبه كما حمله طه حسين، لكان طريق الآلام أقصر، ولتجنبنا ما وصلنا إليه من تراجع أمام التزمّت والأصولية والانغلاق.
تجديد ذكرى طه حسين يكون بالعودة إلى تراثه الغني والمتنوع، الفكري والأدبي والتاريخي، والثقافي والسياسي، والتعامل مع منهجه العقلاني، ووصل ما انقطع من أسئلة الماضي بالحاضر، والاستفادة من أحدث منجزات العلم والمعرفة الإنسانية.