فخري البارودي أسس المعهد الموسيقي الأول في دمشق

مدينة دمشق هي المدينة الأقدم في العالم، لا لأنها ظلت دائماً مأهولة بالسكان فحسب، إنما لأنها المصدر الأساسي للحضارة والإبداع العربي منذ القدم حتى وقتنا الحاضر. فقد قدمت للعالم العديد من المواهب الفنية والأدبية والإبداعية على الساحة الثقافية العربية. وإذ أكتب عن دمشق فإنني سأكتب ما قدمته من معاهد موسيقية، ليشهد التاريخ أن ياسمينها المعطر برائحة الوطن ظل يعبق بنسائم زكية، وأنتج في القرن الماضي أعلام الفن والموسيقا، رغم اشتداد ظلام المحتل الفرنسي الغاصب.

عاشت دمشق مثل كل المدن العربية تحت الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي، إلا أن نضال الشعب السوري ضد الاستعمار لم يشغل الوطنين الأحرار عن الفن والإبداع، فقد عمل الموسيقيون إلى جانب فنهم وروحهم المرهفة ذات الإحساس العالي في الفن على رفع السلاح في وجه المحتل، واستشهد الكثير منهم عام 1945 بيد الفرنسيين حين كانوا يقاتلون من أجل تراب الوطن والحرية والاستقلال. ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عازف الكلارنيت طارق مدحة،  الذي استشهد وهو يدافع عن رمز الأمة (المجلس النيابي)، إلا أنني سأتحدث عن شخصية وطنية هامة في تاريخ سورية المعاصر، رغم عملها في حقل السياسة والنضال اهتمت بالجانب الموسيقي والفني، ألا وهي: الوطني الكبير فخري البارودي  (1885-56__) الذي شغل العالم بروحه الوطنية، إذ كان يقيم العديد من الندوات الجميلة لأهل الأدب والفن في منزله الكائن بحي القنوات.

في أعقاب الثورة السورية الكبرى وتحديداً عام 1928 أسس فخري البارودي مع الموسيقي الشهير توفيق الصباغ: النادي الموسيقي السوري الشرقي، الذي أغلقته السلطات الفرنسية بعد عامين من إحداثه، لما كان له من تأثير عليهم، وبعد أن سمح الفرنسيون بإقامة الأندية كان سباقاً إلى دعم تلك الأندية اجتماعياً ومادياً ومعنوياً، فقد أقيم العديد من الأندية الموسيقية، منها: النادي الموسيقي السوري عام ،1928 والنادي الموسيقي الفني عام ،1930 ونادي نهضة الموسيقا عام ،1931 ونادي دار الألحان والتمثيل عام ،1931  ثم معهد الآداب والفنون عام ،1937 ومعهد أصدقاء الفنون عام ،1939 ونادي الفارابي عام 1940.

وعندما انتخب فخري البارودي نائباً عن دمشق عام 1943 نجح بنفوذه السياسي والاجتماعي وكسر حاجز التقليد، فانتزع من المجلس النيابي بعد جلسة حامية من الصراع الموافقة على تأسيس أول معهد رسمي للموسيقا، يتبع لوزارة المعارف،  تحت اسم: المعهد الموسيقي. وكان ذلك عام 1947. وأشرف عليه بنفسه وترأس مجلس إدارته لمدة عامين. ومن خلال الفنانين المبدعين أمثال: عمر البطش، ومجدي العقيلي، وسعيد فرحات، وعزيز غنام، كرّس المعهد لإحياء الأعمال التراثية، كالموشحات والقدود وفن رقص السماح والأدوار، مما دفع الموسيقي سعيد فرحات لتلحين موشح من نظم فخري البارودي تقديراً له ولجهوده في رعاية الفن والموسيقا، وجاء هذا الموشح على مقام العجم، إذ يقول فيه:  

وغزالٍ كلَّما ألقاهُ يزوي مقلتيهِ

قاطباً عن غيرِ قصدٍ أو بعمدٍ حاجبيه

وإذا سلَّمْتُ ثارَتْ حسرةٌ في وجنتيهِ

لستُ أدري أيَّ ذنبٍ كانَ لي يوماً لديهِ

ما عليهِ لو حباني قبلةً، ماذا عليهِ؟

بين موتي وحياتي لفظةٌ من شفتيهِ

وفي ذلك العصر برز أيضاً مبدعون حافظوا على التراث الموسيقي غير الغنائي، منهم: شفيق شبيب، توفيق الصباغ، عمر النقشبندي، واستطاعوا أن يجسدوا قوالب تأليف  الموسيقا العربية حين قاموا بإحياء البشارف واللونغا والسماعيات وغيرها.

وفي عام 1949 أغلق المعهد بسبب الصراعات السياسية البرجوازية، إلا أن فخري البارودي لم يقف مكتوف الأيدي، بل عمد في عام 1950 إلى فتح المعهد الموسيقي من جديد، على الرغم من مرضه الذي أتعبه. وبجهد كبير أصدر المرسوم الجمهوري التنظيمي رقم 846 تاريخ 9/12/1950 الذي نص على تأسيس المعهد الموسيقي الشرقي في دمشق. وبتاريخ 30/12/1950  أصدر وزير المعارف قراراً بتسمية  إحسان البزرة مديراً للمعهد، وهكذا تم تأسيس  المعهد الموسيقي الشرقي.

شكل مديره آنذاك لجنة لدراسة مناهج معهد الفنون الجميلة في بغداد، ومناهج المعاهد المصرية برئاسة يوسف بتروني، وعضوية كلٍّ من: عبد الغني شعبان، محمد العقاد، يحيى السعودي، سعيد فرحات، شوقي أفزه، وثلاثة خبراء نمسويين من حملة الشهادات العليا في الموسيقا من أكاديمية فيينا للموسيقا.

ثم صدر قرار بتسمية الموسيقار الفلسطيني الراحل  يوسف بتروني مديراً فنياً للمعهد لتنفيذ البرامج والمناهج، والموسيقي الفلسطيني الراحل يحيى السعودي مستشاراً فنياً ومدرساً لمادة العود ولعلوم الموسيقا الشرقية والموشحات. وخصص فؤاد محفوظ، ومحمد النحاس لتدريس آلة العود، والموسيقي المصري محمد العقاد لتدريس آلة القانون، يساعده الفنانان  تيسير كركوتلي، والموسيقي اللبناني عبد الغني شعبان، ويقوم  حسن زركلي بتدريس الصولفيج، والسوري المرحوم سعيد فرحات بتدريس قواعد الموسيقا الشرقية والموشحات، وفائز الأسطواني بتدريس الكمان بالأسلوب الشرقي، وعبد الوهاب سيفي بتدريس فن رقص السماح، والتركي شوقي أفزة آلة الناي، وفيلكس خوري آلتي الكمان الجهير (الفيولونسيل) والكمان الأجهر (كونترباص)، ونسيب الاختيار بتدريس تاريخ الأدب الموسيقي في الوطن العربي. أما الخبراء النمسويون فقد خصصوا لتدريس البيانو وآلتي الكمان الجهير والكمان بالأسلوب الغربي.

قام المعهد بوضع نظام داخلي خاص به، يتضمن مجموعة من البنود التي توجب العمل والالتزام بها، منها:

– تحديد دراسة المعهد بأربع سنوات، يتلقى فيها الطالب دروساً نظرية وعملية.

– اعتبار نظريات الموسيقا الشرقية وقواعدها الأساس في الدراسة.

– اعتماد تدريس الموسيقا الشرقية على مفتاح (صولsoL)، والدراسة النظرية والعملية إلزامية لجميع الطلاب.

-فرض تعليم فن رقص السماح على جميع الطلاب دون استثناء، وأن يتم ذلك من خلال الإيقاعات الشرقية الفنية التي تدرس سنة بعد سنة.

افتتح المعهد أبوابه في الخامس عشر من آذار عام ،1951 وانتسب إليه في العام الأول 120 طالباً، وارتفع العدد إلى 300 طالب في العام الذي يليه ،1952 شريطة أن يتقاضى الطالب المتفوق راتباً شهرياً لا يزيد على 100 ليرة سورية. وكان من بين المتفوقين الذين أصبحوا من أعلام الموسيقا في دمشق بل يمكن القول في سورية: عازف الناي الشهير عبد السلام سفر، وعازف القانون عدنان إيلوش، وعازف الأوبوا البارع مطيع المصري، وثلاثة برعوا في فن رقص السماح وهم: عدنان وزهير منيني وعمر العقاد.

 استمر المعهد في نشاطه وإنتاجه  نحو ثماني سنوات، وتعاقب عليه أربعة مديرين، كان من أبرزهم إحسان البزرة الذي استقال في الثلاثين من كانون الأول عام ،1953 وتولى بعده المربي الأستاذ عز الدين العطار. ثم عاد إليه إحسان البزرة من جديد حتى عام 1955 تقريباً. ثم كلف بإدارة المعهد الأستاذ محمد كامل القدسي، وهو المتمرس بالموسيقا الشرقية والغربية، فاستمر حتى عام ،1957 ثم تولى الأستاذ مجدي العقيلي إداراته حتى إغلاقه عام 1959.

استطاع المعهد أن يجعل من خريجيه نجوماً في الموسيقا، استلموا دفة الحياة الموسيقية حتى وفاة بعضهم، والباقي أطال الله أعمارهم، ما زالوا يقدمون ويساهمون في رفد الحركة الموسيقية بأعمالهم الفنية. منهم على سبيل المثال:

أمين الخياط، عدنان إيلوش، عدنان أبو الشامات، عدنان منيني، نمر كركي، سليم سروة،  صبحي جارور، هشام حموي، إبراهيم جودت، نزار موره لي، والفنان الكبير صباح أبو قوس الذي كنّاه مؤسس المعهد فخري البارودي باسمه فغدا: صباح فخري.

وبعد أن ألحق المعهد بوزارة الثقافة والإرشاد القومي أطلق عليه اسم المعهد العربي للموسيقا، وابتدأ التدريس فيه عام 1961 بإدارة الموسيقار الراحل صلحي الوادي، الذي يمكن القول إنه استطاع أن يثبت دعائم الموسيقا في سورية من خلال عطائه وعلمه، ليصل به المطاف إلى تأسيس المعهد العالي للموسيقا بموجب مرسوم جمهوري،. وخرّج العديد من المواهب الفنية للعالم، وحصل بعضهم على جوائز عالمية، كالمغنيات الأوبراليات: لبانة القنطار، ورشا رزق، وسوزان حداد، نعمى عمران وغيرهن.

وقد قدم طلاب المعهد العديد من الحفلات داخل دمشق وخارج سورية في البلدان العربية والأجنبية، وقد استلم صلحي الوادي راية التأسيس للمعهد من الموسيقار مجدي العقيلي، بعد أن أسسه الوطني الكبير فخري البارودي.

 

المراجع:

– الموسيقا في سورية أعلام وتاريخ، للناقد الموسيقي صميم الشريف.

العدد 1140 - 22/01/2025