دكان الدراويش

عندما لاح لي وجهه النحيل على شاشة التلفزيون، بدا كأنه لم يتغير منذ عشرين سنة ، نفس الحركات العصبية، بل ذات الطريقة الانفعالية السريعة في إلقاء كلامه المشحون بنبرة خطابية، هو أستاذنا في الجامعة، وهاهو اليوم يمارس هواية التحليل السياسي على ما يبدو، وفكرت بأنها صنعة مناسبة له طالما أنه يملك الأدوات المناسبة، إذ أن كلماته الغامضة، وانتقاله المفاجئ من فكرة الى أخرى، ثم استعماله للمصطلحات الغريبة  علينا، كل ذلك كان مشكلة لنا  أثناء المحاضرات، لكنها اليوم لازمة ضرورية له.

في بداية حياتنا الجامعية، وباعتبارنا طلاباً أغرار، اعتقدنا أن القصور هو في إدراكنا لطبيعة عبقريته الفذة، هو الأستاذ الذي نال شهادة (الدكتوراه) في الخارج، لذلك لم نعترف علانية بأننا لا نفهم شيئاً من المحاضرة، بل إننا نعجز عن تدوين جملة مترابطة على دفاترنا، فرحنا نكتب حرفياً كل ما يقول، ونجمع ما ينقصنا من الزملاء المتفوقين، ثم نضع الموضوع أمامنا، نحاول قراءته من اليمين الى اليسار، فلا نجد له معنى، نعيد قراءته من اليسار الى اليمين – مثل النصوص السحرية – عبثاً، والنتيجة كانت رسوب أكثرنا في مادته، مع ذلك بقينا على اعتقادنا بأنه شخص ذكي جداً، بل كنا نعتبر أستاذنا شخصاً من  أصحاب المبادئ، وأنه عانى المر بسبب مبادئه، وأنه شخص مقموع وشيء من هذا القبيل، لذلك عندما فك لنا العارفون (شيفرته)  لم نصدق، زميلتنا أحلام التي تسكن في ذات المنطقة الشعبية التي يقيم بها أستاذنا، أفادت لنا  عن مشاهدتها لقوافل الطلاب تسير باتجاه بيت الأستاذ  محملة بمختلف البضائع المفيدة، ذاك يحمل مدفأة مازوت، والآخر جهاز تلفزيون مهرب، بل إنها أقسمت أن زميلنا عبودة كان يجر وراءه خروفاً صغيراً! بقينا نكذب الخبر حتى أعلنت صديقتنا سناء أنها ستذهب بنفسها لتجرب هذه الطريقة، فهي غير مستعدة للرسوب ثانية في مادته. في اليوم التالي عادت تخبرنا عن مغامرتها وهي تضحك، إذ أنها اضطرت للاختباء في  غرفة والدة الاستاذ لأكثر من ساعة لكي لا تلتقي بباقي الزملاء الزائرين الذين ازدحم البيت بهم، ومن مخبئها استكشفت حالة الأريحية التامة في علاقة أستاذنا مع طلابه، حتى أنها سمعت قرع الكؤوس، وكادت تخرج من الغرفة لتشاركهم الجلسة المرحة، لولا أن أمه العجوز تمسكت بها، لكي تفرغ فيض ثرثرتها المكبوتة، إذ راحت تحدثها تارة وبصوت عال عن عبقرية ابنها، وتارة تهمس لها مشيرة الى الصخب خارج الغرفة : (يقولون أن ابني دكتور… لكن بعمري ما شفت عندو مريض… كأنو فاتح دكان) وعندما تسنى لسناء مقابلته راحت تتفذلك وتتشاطر أمامه وتشيد بكتابه الأخير الذي لم أعد أذكر موضوعه ولكن أذكر أنه لم يكن يهم أحداً على سطح الكرة الأرضية، عندها قام الدكتور وأحضر لها عشر نسخ منه طالباً منها أن تسهم في نشر الثقافة بين الكادحين عبر توزيع هذه النسخ، ومنعاً للالتباس فقد سألته عن ثمنها، فأكد لها أنها مجانية، عندها خرجت من عنده وهي تشيد بمكارم أخلاقه وتبرر أفعاله بأنه درويش وطلباته معقولة بالنسبة لغيره ، وأن الجميع يحارب وجوده على الساحة الفكرية والعلمية، هذا ما خرجت به من زيارته، ومع الوقت صار الطلاب (خوش بوش) معه مؤكدين أن بينهم وبينه خبز وملح – عفواً خبز وويسكي -، والأدهى أننا صرنا نتحدث بأسلوبه ونتحذلق مثله بكلام غير مفهوم. وحين اقترب موعد الامتحان فوجئت صديقتنا سناء بالدكتور يستدعيها ويسألها عن ثمن نسخ الكتاب، ارتبكت وأجابته بخجل بأنها وزعتها مجاناً على الجماهير الكادحة بناء على طلبه، فأنكر ذلك وطالبها بثمن النسخ، وكان عليها أن تستدين لتدفع النقود إذا أرادت النجاح في الامتحان!

أزحت ذكرياتي جانباً، وحاولت أن أتابع ما يقوله في التلفزيون، متصورة أنني بعد عشرين سنة قد كبرت، وربما كبر عقلي قليلاً فصرت قادرة على فهمه، لكن بعد دقائق من الاستماع، وجدت نفسي كما كنت في سنتي الجامعية الأولى، فغيّرت المحطة، وأنا أفكر بعبقرية المحللين و(البصارات) فهم يستطيعون الكلام كما يحلو لهم  دون أن يحاسبهم أحد على أخطائهم.

العدد 1140 - 22/01/2025