مصر… بين أصيل عريق وطرح هجين
توحي (مصر) الكلمة ما توحيه من دلائل فارقت حدود النشأة الأولى، لتغدو مصطلحاً جاوز كثافة المصطلح. وفي المعاجم العربية يبدو الطيف واسعاً، ومن العديد المتسع (مصّرت الأمصار) أي شكلت الأقطار أو الدول، والماصر هو الحاجز بين الأرضين. ويقال اشترى الأرض بمصورها، ويعني بمن عليها أو ما عليهما. ويبدو أن الرئيس الإخواني (محمد مرسي) توهم أنه استملكها كشعب وكأرض وكماء، لأنه قادم من قاموس غير سياسي، يظن أنه سيبدل اللغة والمعتقد، ويقيل التاريخ ويمحو الذاكرة وكأن خمسة آلاف عام من عمر الدولة المصرية تذهب – كما يتوهم – جفاءً.
هنا نستحضر له ولغيره من أصحاب النصوص المغلقة – من دون أن ننوب عن غيرنا من مفكري مصر وسياسييها – مطولة الشاعر المصري حافظ إبراهيم وهو يستعرض تاريخ مصر وتاريخها – تحت عنوان (مصر تتحدث عن نفسها).
حافظ إبراهيم (1871-1932) ضابط تخرج في المدرسة الحربية، وشارك مع الجيش المصري في مهمته في السودان.
شارك السودانيين في العمل الوطني فسرّحه القائد الإنكليزي، وفي إثر عودته اتصل بالمنوّر الفقيه محمد عبده وبعلماء مصر، وحاز ثقافة استماعية، ثم عُين رئيساً للكتب الأدبية بدار الكتب المصرية. وقد ترك ديوان شعر غزيراً حافلاً بالقضايا الاجتماعية والسياسية ، وأُثر عنه (ليالي سطيح)، وهو شكل نثري يشبه المقامات. وقد نقل عن الفرنسية (البؤساء) لفكتور هيجو، ولم يكن في تعريبها موفقاً. والمطولة غنية بتاريخ مصر الفرعوني والسياسي من دون أن يحفل بتاريخها الإسلامي، رغم انتمائه إلى السلفية الدينية. ويبتدئ باسم مصر منشداً.
وقفَ الخلقُ ينظرونَ جميعاً
كيفَ أبني قواعدَ المجدِ وحدي
وبناةُ الأهرامِ في سالفِ الدهرِ
كفوني الكلامَ عندَ التحدّي
تخفي طبيعة المقدمة المسوغ الذي دفع الشاعر للرد على ادعاءات ادّعاها أعداء مصر، وكان يشير بذلك إلى المحتل الإنكليزي، وهي في الوقت نفسه تعلن عن فكرتين:
– الأولى: الفرادة التاريخية
– الثانية: الاحتماء بتلك الفرادة.
لكنه يتبع الرد على السؤال المفترض، والذي غيبه النص الشعري بتفصيل عن تاريخ مصر الفرعوني، لا كحجر ناجز وإنما كمعرفة تراكمت على الزمن لتغدو معرفة عزّ نظيرها، في وقت كانت فيه (الأمم المستعمرة) مشغولة بتجفيف المستنقعات، مشيراً إلى (العلم المصري) على أنه محض مصري لا كعلمٍ عربي أو مسلم. وهنا تبدو قيمة القصيدة وفعلها الوطني. فالعرب كانوا بدواً، وما زال عديدهم كذلك. والمسلمون لم يكونوا قد ظهروا، وما ينبغي لهم مثل ما عند مصر الوثنية أو الفرعونية. اقرأ معه كيف يعرض لعلوم مصر:
قلْ لمن أنكروا مفاخرَ قومي
مثلَ ما أنكروا مآثرَ ولدي
هلْ وقفتُمْ بقمةِ الهرمِ الأك
برِ يوماً فرأيتم بعض جهدي
هلْ رأيتُمْ تلكَ النقوشَ اللواتي
أعجزْنَ طوقَ صنعةِ المتحدّي
هلْ فهمتُمْ أسرارَ ما كانَ عندي
من علومٍ مخبوءةٍ طيِّ بُردي
فالخطاب مثقل بصنعة التاريخ، وإن كان صادراً عن لغة فردية، إلا أنه يختصر جينات الوعي الجمعي المصري، والمستمع هنا هو تلك القوى التي أقالت مصر من مركز للتاريخ إلى موضوع من موضوعاته. ويحتمل الخطاب أيضاً إدانة للعثمانيين الذين همشوا مصر وهمشوا الشام. ويحتمل الخطاب أن يكون مواجهة مع المرحلة العثمانية والمرحلة النابليونية – على قِصَر زمنها – كما هو موجه إلى المستعمر الإنكليزي، ويدل قوله:
كم بغَتْ دولةٌ عليَّ وجارَتْ
ثم زالَتْ وتلكَ عقبى التعدّي
على مراحل الضعف السياسي لمصر، تلك المراحل تمر على الأمم،لكن الأمم الممتلئة بالكوادر والموارد والمعارف والثروات تنهض بقوة وتستعيد تاريخها المستلب وتصنع الجديد منه. ولم تكن المرحلة الحالية من سقوط المشروع القومي الناصري 1967 إلى ظهور المرحلة الساداتية المباركية الإخوانية الإسلاموية إلا صورة عن سقوط الدولة القطبية التي شكلها محمد علي باشا ما بين
1805و1849م. فالتراجع التاريخي لم يكن لأسباب عضوية وحسب، فقد كان العامل الخارجي (تآمر الدول الكبرى لتحطيم جيش محمد علي 1840 وإعادة إنعاش الدولة العثمانية)، عاملاً فاعلاً حاسماً في إزاحة المشروع النهضوي لمحمد علي باشا على المستوى السياسي، وأما المستويات الأخرى فقد تابعت التقدم .
ويعد طه حسين علامة ذاك التقدم، في وقت كانت فيه تتفاعل متضايفة تضايفاً اختناقياً ثقافتان: الأولى: يمثلها الطهطاوي ومحمد عبده 1905.
الثانية: جمال الدين الأفغاني المصلح الديني الذي شكل ب (إصلاحيته) عامل دفع خلفي باتجاه إنشاء مفهوم الدولة الدينية. وما نراه لازماً هو صدور عقلية حسن البنا في تأسيس التنظيم الإخواني 1932 عن البنية الأفغانية.
ثم يلتفت حافظ إبراهيم إلى العلم التجريبي المصري والحقوقي، وهما من خصائص الأمم المتقدمة قديماً وحديثاً.
ذاكَ فنُّ التحنيطِ قد غلبَ الده
رَ وأبلى البلى وأعجزَ ندي
قد عهدتُ العهودَ من عهدِ فرعو
نَ ففي (مصرَ) كانَ أولُ عقدِ
أنا أمُّ التشريعِ قد أخذَ الرو
مانُ عني الأصولَ في كلِّ حدِّ
فسلوا البحرَ عن بلاءِ سفيني
وسلوا البرَّ عن مواقعِ جردي
ومن الملاحظ أن الشاعر حافظاً لا ينسى الأمجاد العسكرية، وهذا ما تشرّبه من المدرسة الحربية التي تخرج فيها ضابطاً. ومن تشربه ذاك يتسرب إلى القصيدة الموقف الحربي على أنه إكمال للمشروع التاريخي المصري. والحرب في الشعر العربي إما مفخرة فردية وتتشخص بفارس استثنائي (عنترة)، وإمّا مأثرة لأمة حققت فيها ما يدعوها لتضعه في سجلها التاريخي. ويبدو من الإشارة العسكرية أنه يعني التاريخ القريب (بطولات محمد علي باشا 1805 – 1849م) وتوسعاته في السودان والجزيرة والشام. والأسطول المصري حينذاك تفوق على الأسطول السلطاني العثماني. إلا أن الأوربيين – على تناقضاتهم – اجتمعوا عليه وحطموه (1840). ورغم أنّ وصول محمد علي إلى السلطة كان من المدخل الإسلامي فهو ضابط ألباني في الجيش العثماني، جاء ليشارك في إخراج نابليون من مصر، إلا أنه لم يدر بالاً للنمط الإسلامي، بل على العكس تماماً استنسخ النمط الفرنسي – على أنه الأعلى – واستقدمه ليُلحق مصر بالنمذجة الغربية. وقد أشار ماركس إلى هذا بقوله:
(إنه الوحيد (محمد علي) القادر على إسقاط الطربوش العثماني وارتداء البرنيطة الفرنسية). وأتبع محمد علي سياسته بتجربة زراعية صناعية إدراكاً منه لأهمية الموارد في الدول المركزية، إضافة إلى إعداد الكوادر في الغرب( فرنسا) تحديداً. وقد نتج عن هذا المشروع التنويري الأول الذي قاده رفاعة الطهطاوي وانقلابه من أزهري إلى علماني.
وكغيره من شعراء النهضة كان حافظ داعية إصلاحياً، والدعوة مباشرة يحاول -كنظيره الأمير شوقي-استحضار (الأخلاق) من دون تفصيل أو خصوصية في هذا المبحث. ولم يكن حافظ ولا شوقي ولا غيرهما يعنيان بهما علم الأخلاق، كما تعنيه الفلسفة القديمة كالأبيقورية 270-341ق.م ذات النزعة الأخلاقية الفردية المنبثقة أصلاً عن ديموقريطس صاحب مدرسة (آثينا – وأليفور)، إذ رفض الأصل الغيبي للحس الأخلاقي. ذهب ليعلن أن الإنسان هو مصدر كل خُلُق وليست كالفلسفة الحديثة التي وسعت مفهوم الأخلاق لينتقل من المبادىء والمثل لتشاكل علم الاجتماع أو الاقتصاد، أو الانقسام الحديث، أخلاق بورجوازية وأخلاق شيوعية، إنما كانت الأخلاق مصطلحاً مبهماً في الشعرية الحديثة أقرب ما تكون إلى النزعة الدينية الإصلاحية.يقول حافظ:
وارفعوا دولتي على العلم والأخ
لاقِ، فالعلمُ وحدَهُ ليسَ يُجدي
وربما أشار بذلك إلى التعليم أو التهذيب، كما ورد عند شوقي في نهج البردة:
صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُهُ
فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ
والخطاب الأخلاقي يعتمد مرجعية(النص) الموحى به كما ورد:
(ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لا نفضُّوا من حولِكَ) (آل عمران 3/159).
ويشير إلى الأطماع الاستعمارية التي استهلك الحديث السياسي فيها نفسه. لكن عندما تنتظم كفكرة في النظم الشعري تصبح بنية جديدة قابلة للتعميم في الوسط الشعبي (العادي والمثقف)، في حين لا تقوى النخب السياسية دائماً على إقناع تلك الأوساط. ثمّ يذكر بفكرة التآمر:
إنَّ في الغربِ أعيُناً راصداتٍ
كحَّلَتْها الأطماعُ فيكمْ بسُهدِ
فالخطاب موجه إلى المصريين، وهم في الأزمة السياسية وفي خضم الصراع مع الاستعمار الإنجليزي. وقد اشتغل الشاعر على اتجاهين: الأول استحضار التاريخ الفرعوني الوثني، في مواجهة الإمبراطورية الإنجليزية صاحبة الانقلاب الصناعي وصاحبة أوسع جغرافية (لا تغيب الشمس عن ملكها) من الإمبراطوريات، وهي أيضاً صاحبة الفتوح العلمية من (بيكون) إلى (نيوتن) إلى (داروين)، وهذا ما جعله يستحضر العلم الكيميائي المصري. ومن المستحيل أن يستحضر (الأزهر) أو (المرحلة الفاطمية) أو (عمرو بن العاص) الفاتح،فليس هؤلاء عند النزاع الأممي بشيء، على الرغم من تدينه الذي لا يخفى.
الاتجاه الثاني هو إحساس الشاعر غير المعلن بأن (الإسلام) جاء فاتحاً مستعلياً غيّر لغة مصر وعقائدها، ومن جهة أخرى ليس الإسلام بناتجٍ وطني مصري ليفاخر به المحتل الإنجليزي… وهنا تبدو النزعة الوطنية التاريخية مستعلية على الانتماء الإسلامي. ثمّ ينتقل الشاعر إلى الوضعية المصرية حينذاك، وكأنه يتكلم عن اليوم.
نحنُ نجتازُ موقفاً تعثرُ الآ
راءُ فيهِ، وعثرةُ الرأيِ تُردي
ونُعيرُ الأهواءَ حرباً عواناً
من خلافٍ والخلفُ كالسيلِ يُعدي
ونُثيرُ الفوضى على جانبيهِ
فيعيدُ الجهولُ فيها ويُبدي
ويظنُّ الغويُّ أنْ لا نظامْ
ويقولُ القويُّ قد جدَّ جِدّي
فالتطرف السياسي قديم في الموروث العربي والإسلامي (الخوارج-الأمويون- العباسيون – العثمانيون – الإخوانيون).
وقد استنسخ العرب اليوم من معطيات الماضي البعيد والوسيط ما يجعلهم يرفضون العقلنة والتعايش مع المخالف في المبدأ السياسي والمعتقد الروحي.
ومنذ مرحلة التحرر الوطني إلى الراهن السياسي لم يستطع العرب إنتاج نظام سياسي قابل للتعايش مع العصر. ولعل هذا عائد إلى الانشداد المنبهر بما أنجزه العرب في ظل دولة الخلافة من منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثاني عشر. وعلى الرغم من أهمية تلك الإنجازات إلا أن انتظامها في البنية المقدسة أحالها إلى عبء. والأوغل في العبء هو المحاولة الجادة الدؤوبة من القوى (الإسلاموية) لاستعادة الأزمنة الخلافية من المبعث النبوي إلى آخر سلطان عثماني. على أن أزمنة الخلافة قابلة للامتداد، وهي إذ نُمتط لتمتد فإنما تقصي الحالة الوطنية، بصرف النظر عن طبيعة الوطنية السياسية (قومي- يساري-ليبرالي) فالإسلام كدين للدولة نشأ مع العهد الأموي 661-750 م، ولم يكن العالم كله قد حقق الدولة القومية.
فالاحتماء بتاريخ يحاول أصحابه استعادته كنمط سياسي – وحده – قادر على الحل لا يمكن استعادته، فالقوى الإسلاموية تحاول ليَّ عنق التاريخ، وكأن التاريخ توقف عند لحظة التأسيس لدولة الخلافة.
وقد أشار حافظ إبراهيم في نهاية المطولة إلى المعاناة، إشارة شاعر يبحث عن التوافق لا الحسم التاريخي.
إننا عندَ فجرِ ليلٍ طويلٍ
قد قطعناهُ بينَ سُهدٍ ووَجدِ
وتجلَّى ضياؤُهُ بعدَ لأيٍ
وهو رمزٌ لعهديَ المستردِّ
فاستبينوا قصدَ السبيلِ وجِدُّوا
فالمعالي مخطوبةٌ للمجدِّ
ولا يزال الليل يزيح النهار، ولا يزال الغيب يقمع العيان، ولا تزال أمة النحو والصرف تنصرف عن خطوة البدء الأولى، فالحدث المصري اليوم معياريٌ يقرر إلى جانب المسألة الوطنية السورية إيقاع المستقبل القريب الذي لم يعد يتوافق مع السكونية والأحادية.