عندما يبكي الكبار…!

Normal
0

false
false
false

EN-US
X-NONE
AR-SA

MicrosoftInternetExplorer4

/* Style Definitions */
table.MsoNormalTable
{mso-style-name:”Table Normal”;
mso-tstyle-rowband-size:0;
mso-tstyle-colband-size:0;
mso-style-noshow:yes;
mso-style-priority:99;
mso-style-qformat:yes;
mso-style-parent:””;
mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt;
mso-para-margin:0cm;
mso-para-margin-bottom:.0001pt;
mso-pagination:widow-orphan;
font-size:11.0pt;
font-family:”Calibri”,”sans-serif”;
mso-ascii-font-family:Calibri;
mso-ascii-theme-font:minor-latin;
mso-fareast-font-family:”Times New Roman”;
mso-fareast-theme-font:minor-fareast;
mso-hansi-font-family:Calibri;
mso-hansi-theme-font:minor-latin;
mso-bidi-font-family:Arial;
mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}

منذ أكثر من ست سنوات ونيف كان الأديب حنا مينه يرتاد مقهى الرصيف مرة في الأسبوع،  للقاء أصدقائه ومحبيه، والتواصل مع الوسط الثقافي بشكل مباشر.

ذات يوم بعد أن ألقى تحية الصباح على الفقيد الكبير محمد الماغوط، الجالس إلى طاولة قريبة من مكان جلوسه، تبادلا الضحك ممزوجاً بخفة دم الماغوط ووخزاته اللاذعة. عاد حنا مينه إلى طاولته وأخذ يجول بنظره في أرجاء المقهى شبه المكتظ بالرواد. فثمة طاولة لبسام كوسا وأصدقائه، وأخرى لمثقفين وأدباء وغيرهم.. وعلى مسافة بعيدة في الركن المطل على الشارع رجل سبعيني بقامة فارهة، ووجه مستدير، ممتلئ، مسكون بالهموم، مشبع بالقلق، ترتسم عليه ملامح التوتر وعدم الاستقرار، يقلّب صحيفة بين يديه. نظرت إليه، فتعرفت من بعيد على قسماته، إنه الدكتور غسان الرفاعي.

قلت للأستاذ حنا مينه أتعرف من الجالس هناك؟ قال: لا. فأجبته: إنه الدكتور غسان الرفاعي، قال: لكنه في فرنسا، أمتأكد أنت! أجبته نعم، إنه هو. فهمَّ بالوقوف قائلاً: سأذهب للسلام عليه وتقبيل وجنتيه، إنه صديق الزمن الجميل. فقلت له: يا أستاذ حنا أعتقد أن الأنسب أن تنتظر قليلاً فربما يأتي هو إليك، فأنت…. فأجاب: يا ابني قلت لك إنه صديق الزمن الجميل.. وأحد مؤسسي رابطة الكتاب السوريين، ومن أكثرنا ظرفاً وحباً للنكتة والمرح.. سأذهب لتقبيله. ومشى خطوات وئيدة بسبب تقدم العمر. ولمّاكان الدكتور غسان الرفاعي أصغر سناً، وأكثر نشاطاً، سارع الخطوة باتجاه حنا مينه، وتلاشت المسافة بينهما، أمام وهج اللقاء، فتعانقا، وأسند كل منهما رأسه على كتف الآخر، وتهاطلت الدموع. سمعت بعض الكلمات.. آه.. أين ذاك الزمن الجميل.!

دام اللقاء دقائق، ثم جلس الكبيران إلى الطاولة، وساحت الذكريات، إلى خمسينيات القرن الماضي، أيام تأسيس الرابطة، وظروف عقد مؤتمرها التأسيسي، وذكرى من رحل من المعارف والأصدقاء، من أدباء سورية وغيرهم ممن حضر المؤتمر التأسيسي من الدول العربية.

بعد أيام من اللقاء اطَّلع قراء جريدة (تشرين) على ما كتبه الدكتور غسان عن لقائه بحنا مينه في زاويته التي اعتدنا على انتظارها وقراءتها بلهفة عشاق المعرفة، والاطلاع على تجارب الآخرين، خاصة الثقافة الفرنسية، من تلك الزاوية المعنونة بأسبوعيات غير متزنة، بلغة تمزج بين الأدب والفلسفة والفكر والسياسة، معطرة بالثقافة والمعرفة.

قرأ الأديب حنا مينه الزاوية فعلّق عليها: إنه ما زال على وفائه وحبه لأصدقائه وإخلاصه لماضيه.

منذ أسبوعين، وبنظر واهن وأنامل مرتعشة، طلب مني الأديب حنا مينه أن أقرأ له عناوين جريدة (النور). وعندما وصلت إلى الصفحة الأخيرة، حيث كانت تطل في الزاوية اليمنى صورة الأديب حنا مينه تحت عنوان: (حنا مينه سلامتك). قرأت له ما كُتب، ثم نظر ملياً في صورته، وذهب عميقاً في لجة البحر وشطآن الغابة.. ثم لفتَتْ نظره صورة أخرى كانت على الصفحة الأخيرة. فقال متسائلاً، بين المتعرِّف على الصورة والمشتبه بها: لمن هذه الصورة؟! فقلت له بحذر شديد: إنها للدكتور غسان الرفاعي.. تملكتني الحيرة وأخذني الصمت بعيداً، كيف أقول له إن صديقه قد رحل، ملتحقاً بثلة من الأصدقاء.

لم أر حنا مينه يبكي إلا عند رحيل أحد أصدقائه، وكي أُجنِّبه لحظات الحزن والألم، ذكَّرته بذلك اللقاء في مقهى الرصيف، وبزاوية الدكتور غسان الرفاعي عنه، فابتسم، وبمهارة المبدع راح يسرد لي بلغته الجميلة أحداثاً كثيرة رافقت تأسيس الرابطة، وبعضاً من نكات الدكتور غسان الرفاعي. وبعد فترة من الصمت نظر إليَّ وفي عينيه يتلامح طيف دمعة، ولماذا هذه الصورة على الصفحة الأخيرة؟! عندئذ لم أجد مهرباً من إخباره بأن صديقه قد غادرنا تاركاً ما نعيشه من آلام ومحن حملها معه طيلة فترة بعده عن الوطن الذي بقي ساكناً في وجدانه.. نعم يا أستاذ حنا لقد رحل غسان الرفاعي.. أخذ الأديب حنا مينه الجريدة وبحث بلهفة عن موضع الصورة ثم قبلها ثلاثاً وندّاها بدموع سرقها من ملوحة بحر اللاذقية الذي طالما حلم بنقله إلى دمشق.

بكى حنا مينه صديقه، بكى الزمن الجميل.. شبابه، نضاله، فتوته، عناده.. ثم هدأ وقال بغصة في القلب وحزن عميم في المقلتين:

(ويا وطناً بالحب نكسو أديمه…).

العدد 1140 - 22/01/2025